حول العالم العربي.. وهم ”نقل التكنولوجيا“
نقاط للقراءة السريعة
إيحاءات مصطلح ’نقل التكنولوجيا‘ ترسم للعرب صورة المتلقي السلبي عن الآخر الأجنبي
الأدبيات الشائعة تحول التكنولوجيا إلى سلعة غربية تُشتَرى وتُنقل
زيادة قدراتنا التكنولوجية الذاتية، تمَكِّننا من انتقاء واستيعاب مكونات تكنولوجية تنقل إلينا
مصطلح يشيع بمجالات التنمية، والعلاقات بين الشمال والجنوب.. حامد الموصلي يرفض إيحاءاته، ويفند مغالطات ترتبط به.
صار مصطلح ”نقل التكنولوجيا“ من المصطلحات شائعة التداول؛ سواء في المؤتمرات أو وسائل الإعلام لدينا. وفي رأيي أن الطريقة التي يجري بها تداول هذا المصطلح ترتبط بالعديد من الإيحاءات، التي يمكن إيجازها على النحو التالي:
أن النقل يجري من طرف يملك التكنولوجيا إلى طرف لا يملكها.
وأن النقل يحدث بين طرف موجب وآخر سالب، أو مرسل ومستقبل. والخطورة في هذا التصور أنه يرسم صورة تجعل زمام المبادرة دائمًا في يد الآخر الأجنبي، بينما الصورة التي يرسخها عنا هي صورة المستقبل أو المتلقي السلبي.
وأن التكنولوجيا محض موضوع لصفقة، أي أنها تخضع لاعتبارات فنية واقتصادية فحسب.
وإنني أختلف مع كل هذه الإيحاءات، وسوف أحاول أن أوضح وجهة نظري فيما يلي. لكن يلزم -قبل هذا- ضبط لغوي للمصطلح وما يُلحق به، وهو ما أحيله على مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وأورد ما سطره في المعجم الكبير الصادر عنه.
فالتِّقنية (بكسر التاء) -وأصلها اليوناني Technicitechne يعني الفن والصناعة- هي جملة المبادئ والوسائل التي تعين على إنجاز شيء أو تحقيق غاية، وتقوم اليوم على أسس علمية دقيقة. وتختلف عن العلوم في أن غايتها العمل والتطبيق، في حين أن العلم يرمي إلى مجرد الفهم الخالي من الغرض العملي.[1]
والتكنولوجيا Technology: نسق من معارف تقنية مستمدة من علوم مختلفة، تهدف كلها إلى غاية واحدة، وهي تطوير الإنتاج، وتنويع وسائله وتحديد دور الإنسان فيه.
أما التكنيك Technique: فهو المنهج التطبيقي لفن أو عمل أو حرفة في إنجازه.
مصطلح التكنولوجيا
في رأيي، ثمة لبس شديد في استخدام مصطلح التكنولوجيا؛ فهذا المصطلح يستخدم للدلالة على مضامين منها؛ العُدد والآلات والمعدات Equipment, Machines or Hardware، وكذلك على الأساليب والطرق Techniques المستخدمة للإنتاج أو لأداء النشاط الإنساني عموما، وأيضا على تطوير هذه الأساليب.
وهناك ضرورة للتفرقة بين الطريقة وبين العُدد والآلات، التي أحيانًا ما يمتد تعريفها ليشمل كافة العناصر المادية اللازمة للإنتاج، من خامات سبق تصنيعها أو إعدادها، وعُدد وماكينات وتجهيزات ومبان.
فأي تقنية يحتاج تطبيقها إلى وسائط مادية، يجري تجهيزها بما يتسق ومتطلبات التقنية نفسها. ومع التطور العلمي والتكنولوجي متسارع الإيقاع، يُختزن المزيد من مكونات التقنية في العُدد والآلات، بل في الخامات نفسها التي سبق تصنيعها أو إعدادها وفقًا للتقنية.
والتفرقة ضرورية؛ لاختلاف طبيعة العُدد والآلات عن التقنيات أولاً، وثانيًا: لاختلاف أسلوب التعامل معهما. أنا أستطيع أن أشتري أو أملك العُدد والآلات دون أن أعلم بالضرورة شيئًا عن التقنيات، وبالعكس: فإنني يمكنني أن أحوز التقنية أو أتعلمها دون أن أشتري العُدد والآلات التي تستخدم في الإنتاج أو النشاط الإنساني عمومًا.
وهناك ضرورة للتفرقة بين التقنية التي هي طريقة إنتاج منتج سلعي أو خدمي، وبين تعديل التقنية أو التوصل إلى تقنيات جديدة للإنتاج؛ فالتقنية تحدد أسلوب أداء النشاط الإنتاجي أو الإنساني، أي أن التقنية ترتبط عضويًّا بالنشاط الإنتاجي نفسه، أو تمثل جهازه العصبي إن صح التعبير؛ فما من نشاط إنتاجي إلا ويتم عبر تقنية ما.
أما تعديل التقنية أو التوصل إلى تقنيات جديدة فهو التكنولوجيا بعينها، وهي بهذا المعنى قدرة تتعلق بنشاط، يجري في مستوى أعلى من المستوى الذي تم فيه الإنتاج نفسه، ويرمي إلى تعديل تقنية الإنتاج أو التوصل إلى تقنيات جديدة.
نخلص مما سبق إلى أن التكنولوجيا تمثل نمطًا للفعالية الإنسانية يتمتع باستقلالية نسبية عن النشاط الإنتاجي نفسه، وكذلك عن العلم، فالنشاط الإنتاجي يستهدف إنتاج سلع أو خدمات مطلوبة للمجتمع، والعلم في التجريد النهائي يستهدف الوصول للحقيقة، في حين أن هدف التكنولوجيا تغيير الواقع.
التكنولوجيا تمثل نمطًا للفعالية الإنسانية يتمتع باستقلالية نسبية عن النشاط الإنتاجي نفسه، وكذلك عن العلم
حامد الموصلي
والتكنولوجيا بهذا المعنى أيضا هي نتاج حضاري، وفي الوقت نفسه، أداة لإعادة إنتاج الحضارة، ولهذا فإن الاستمرارية الحضارية -أي قدرة الحضارة على إعادة إنتاج نفسها والحفاظ على وجودها- رهن بالفعالية التكنولوجية. وكما أن ضمور القدرات التكنولوجية يؤدي إلى الاغتراب والاضمحلال الحضاري، فإن الإبداع التكنولوجي الذاتي هو أحد الأدوات المهمة للتجدد الحضاري.
وبالمعنى نفسه كذلك، فإن التكنولوجيا رفيق ملازم لمسيرة التطور الإنساني على مر العصور، ووجود لاحقة ’logy‘ -ومعناها العلم- في نهاية مصطلح التكنولوجيا Technology لا يعني بالضرورة ارتباط التكنولوجيا بالمنهج العلمي التجريبي، كما ظهر في الغرب وساد خلال القرون الثلاثة الماضية، وما يستتبعه ذلك التصور الخطأ من أن التكنولوجيا بوصفها قدرة أو نمطًا للفعالية الإنسانية غريبة الطابع والمنشأ، وما يحولها في الكثير من الأدبيات الشائعة إلى سلعة غربية تُشترى وتُنقَل.
من الفهم السابق للتكنولوجيا نستنتج أولاً: أنه من الممكن أن يكون هناك علم دون أن تكون هناك تكنولوجيا: أي أنه يمكن أن يجرى نشاط علمي مكثف دون أن يكون له أيُّ مردود تكنولوجي؛ أي مردود يتعلق بتحسين الواقع الإنتاجي والتفاعل معه.
وثانيًا: أن يكون هناك تكنولوجيا دون علم بالمعنى السائد للعلم حاليًّا، أي إدراك النظرية العلمية والقوانين العلمية الحاكمة للظاهرة في صورتها العامة والمجردة.
ولا يمنع هذا وجود إدراك ما للحقيقة العلمية -ولو في بعض صورها الخاصة- عن طريق تراكم المشاهدات والخبرات، بالإضافة إلى الحدس الذي كان لدى هؤلاء التكنولوجيين المجهولين في التاريخ، وكانوا وراء اختراع الكثير من التقنيات المهمة التي تأخذ أبصارنا وعقولنا حتى الآن؛ مثل بناء الأهرامات والمسلات والتحنيط... إلى غيرها.
لا يؤدي مجرد نقل التقنيات إلى انتقال القدرة على إبداع التقنيات، أي التكنولوجيا حامد الموصلي
نقل التكنولوجيا
أصبح مصطلح نقل التكنولوجياTechnology Transfer من أكثر المصطلحات شيوعًا في مجالات التنمية، والعلاقات بين الشمال والجنوب؛ الشمال المتقدم تكنولوجيا والجنوب المتخلف تكنولوجيا ونحن منه. والمصطلح كما يستخدم اليوم مرتبط بمغالطتين في منتهى الخطورة.
المغالطة الأولى: أن المصطلح يفترض علاقة نقل أحادية الاتجاه بين طرفين: أحدهما فاعل إيجابي يعطي، والآخر سلبي متلق يأخذ، وتشبه عملية النقل ملء وعاء شاغر لا يتغير شكله خلال عملية النقل.
أخطر ما يرتبط بهذا التصور الافتراض الضمني أن الطرف المتلقي ليست لديه تكنولوجيا؛ فالفهم الدارج لنقل التكنولوجيا لا يضع اعتبارًا للتفاعل مع أي قدرات تكنولوجية محلية ما، فهو يفترض وجود ’فراغ‘ تكنولوجي يتوجب بالتالي ’ملؤه‘.
والمغالطة الثانية: هي افتراض المصطلح أن التكنولوجيا ’شيء‘ يمكن نقله ببساطه من سياق اجتماعي حضاري لآخر، وأن العملية تخضع لاعتبارات فنية اقتصادية محضة.
بيد أن الدروس المستفادة من هنا وهناك بدول الجنوب تؤكد أن التكنولوجيا –من حيث كونها قدرة– غير قابلة للنقل عمومًا. وأن ما جرى –ويجري– نقله هو المعدات أو الآلات، وبدرجة أقل التقنيات، ما حدا بالمؤرخ اللبناني أنطوان زحلان لصك مصطلح ’النقل الخالي من التكنولوجيا‘Transfer-free-of-technology؛[2] وصفا لتجربة محمد علي في بداية القرن الماضي، وتجارب الدول العربية خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن نفسه في مجال نقل التكنولوجيا بالمفهوم السابق.
صحيح أنه من الممكن انتقال مكونات للقدرة التكنولوجية مع المعدات والتقنيات، إلا أنه إن لم تُبذل -على التوازي- جهود مضنية لبناء قدرات تكنولوجية ذاتية، فلن يحدث استيعاب ولا تفعيل لهذه المكونات.
إن الفهم الخطأ لمصطلح نقل التكنولوجيا ينبع من الخلط بين مفهوم الطريقة Technique والتكنولوجيا Technology.
لكي نوضح هذا الخلط، يمكننا تشبيه التقنية بالفكرة، والتكنولوجيا بالقدرة على التفكير. فالتقنيات هي نتاج للتكنولوجيا التي هي قدرة، كما أن الأفكار نتاج للقدرة على التفكير، والأفكار قابلة للنقل كما أن التقنيات تقبل النقل كذلك بدرجات متفاوتة من الدقة.
لكن هل القدرة على التفكير قابلة للنقل؟ أو هل يؤدي مجرد نقل الأفكار إلى اكتساب القدرة على التفكير؟ الإجابة المفترضة هنا هي النفي.
كذلك لا يؤدي مجرد نقل التقنيات إلى انتقال القدرة على إبداع التقنيات، أي التكنولوجيا، بل إن نقل تقنيات –سواء بصورة صريحة أو مجسدة في معدات أو خطوط إنتاج– غير مناسبة قد يؤدي إلى الإضرار بنمو القدرات التكنولوجية الذاتية.
من هنا، يمكننا إذن صياغة المعيار التالي: أن نقل المعدات أو التقنيات مفيد تكنولوجيًّا فحسب، إذا أدى إلى حفز القدرات التكنولوجية الذاتية وتنشيطها ودعمها.
إن الموقف السائد في المنطقة العربية بأسرها؛ يقوم على فكرة ”شراء العبد ولا تربيته“، أي استبدال بناء القدرات التكنولوجية الذاتية، بمجرد شراء المعدات والتقنيات، وهو موقف قصير النظر، غير صبور على البناء.
خطورة هذا الموقف، أنه سيؤدي إلى نوع من إدمان التبعية للأقوياء تكنولوجيًّا؛ فالتسارع الهائل في التطور التكنولوجي سوف يجعل من الضروري الاعتماد على الآخر في استيراد المعدات والتقنيات، التي تتقادم معنويًّا بشكل أسرع جدًّا مما سبق، كما يحدث الآن مثلاً في مجال الكمبيوتر.
ليست هذه دعوة إلى الانغلاق دون المنجزات التقنية الحديثة، على الإطلاق ليس الأمر كذلك، بل هي دعوة للاهتمام بالمردود التكنولوجي لعلاقتنا بالعالم.
قد يبدو هذا مناقضًا للقول بأنه كلما زادت قدراتنا التكنولوجية الذاتية، تمكنَّا أكثر من انتقاء وهضم واستيعاب تقنيات ومكونات تكنولوجية تنقل إلينا من الخارج، وتؤدي بالتالي إلى المزيد من تقوية قدراتنا التكنولوجية، لكنه صحيح.
* الدكتور حامد إبراهيم الموصلي: أستاذ متفرغ بكلية الهندسة جامعة عين شمس المصرية. رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية للتنمية الذاتية للمجتمعات المحلية.
هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
[1] المعجم الكبير، الجزء الثالث، (مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1992).
[2 ] Antoine B. Zahlan, The Impact of Technology Change on the Nineteenth Century Arab World In: Between the State and Islam (Woodrow Wilson Center Series, 2001).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إيحاءات مصطلح ’نقل التكنولوجيا‘ ترسم للعرب صورة المتلقي السلبي عن الآخر الأجنبي
الأدبيات الشائعة تحول التكنولوجيا إلى سلعة غربية تُشتَرى وتُنقل
زيادة قدراتنا التكنولوجية الذاتية، تمَكِّننا من انتقاء واستيعاب مكونات تكنولوجية تنقل إلينا
مصطلح يشيع بمجالات التنمية، والعلاقات بين الشمال والجنوب.. حامد الموصلي يرفض إيحاءاته، ويفند مغالطات ترتبط به.
صار مصطلح ”نقل التكنولوجيا“ من المصطلحات شائعة التداول؛ سواء في المؤتمرات أو وسائل الإعلام لدينا. وفي رأيي أن الطريقة التي يجري بها تداول هذا المصطلح ترتبط بالعديد من الإيحاءات، التي يمكن إيجازها على النحو التالي:
أن النقل يجري من طرف يملك التكنولوجيا إلى طرف لا يملكها.
وأن النقل يحدث بين طرف موجب وآخر سالب، أو مرسل ومستقبل. والخطورة في هذا التصور أنه يرسم صورة تجعل زمام المبادرة دائمًا في يد الآخر الأجنبي، بينما الصورة التي يرسخها عنا هي صورة المستقبل أو المتلقي السلبي.
وأن التكنولوجيا محض موضوع لصفقة، أي أنها تخضع لاعتبارات فنية واقتصادية فحسب.
وإنني أختلف مع كل هذه الإيحاءات، وسوف أحاول أن أوضح وجهة نظري فيما يلي. لكن يلزم -قبل هذا- ضبط لغوي للمصطلح وما يُلحق به، وهو ما أحيله على مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وأورد ما سطره في المعجم الكبير الصادر عنه.
فالتِّقنية (بكسر التاء) -وأصلها اليوناني Technicitechne يعني الفن والصناعة- هي جملة المبادئ والوسائل التي تعين على إنجاز شيء أو تحقيق غاية، وتقوم اليوم على أسس علمية دقيقة. وتختلف عن العلوم في أن غايتها العمل والتطبيق، في حين أن العلم يرمي إلى مجرد الفهم الخالي من الغرض العملي.[1]
والتكنولوجيا Technology: نسق من معارف تقنية مستمدة من علوم مختلفة، تهدف كلها إلى غاية واحدة، وهي تطوير الإنتاج، وتنويع وسائله وتحديد دور الإنسان فيه.
أما التكنيك Technique: فهو المنهج التطبيقي لفن أو عمل أو حرفة في إنجازه.
مصطلح التكنولوجيا
في رأيي، ثمة لبس شديد في استخدام مصطلح التكنولوجيا؛ فهذا المصطلح يستخدم للدلالة على مضامين منها؛ العُدد والآلات والمعدات Equipment, Machines or Hardware، وكذلك على الأساليب والطرق Techniques المستخدمة للإنتاج أو لأداء النشاط الإنساني عموما، وأيضا على تطوير هذه الأساليب.
وهناك ضرورة للتفرقة بين الطريقة وبين العُدد والآلات، التي أحيانًا ما يمتد تعريفها ليشمل كافة العناصر المادية اللازمة للإنتاج، من خامات سبق تصنيعها أو إعدادها، وعُدد وماكينات وتجهيزات ومبان.
فأي تقنية يحتاج تطبيقها إلى وسائط مادية، يجري تجهيزها بما يتسق ومتطلبات التقنية نفسها. ومع التطور العلمي والتكنولوجي متسارع الإيقاع، يُختزن المزيد من مكونات التقنية في العُدد والآلات، بل في الخامات نفسها التي سبق تصنيعها أو إعدادها وفقًا للتقنية.
والتفرقة ضرورية؛ لاختلاف طبيعة العُدد والآلات عن التقنيات أولاً، وثانيًا: لاختلاف أسلوب التعامل معهما. أنا أستطيع أن أشتري أو أملك العُدد والآلات دون أن أعلم بالضرورة شيئًا عن التقنيات، وبالعكس: فإنني يمكنني أن أحوز التقنية أو أتعلمها دون أن أشتري العُدد والآلات التي تستخدم في الإنتاج أو النشاط الإنساني عمومًا.
وهناك ضرورة للتفرقة بين التقنية التي هي طريقة إنتاج منتج سلعي أو خدمي، وبين تعديل التقنية أو التوصل إلى تقنيات جديدة للإنتاج؛ فالتقنية تحدد أسلوب أداء النشاط الإنتاجي أو الإنساني، أي أن التقنية ترتبط عضويًّا بالنشاط الإنتاجي نفسه، أو تمثل جهازه العصبي إن صح التعبير؛ فما من نشاط إنتاجي إلا ويتم عبر تقنية ما.
أما تعديل التقنية أو التوصل إلى تقنيات جديدة فهو التكنولوجيا بعينها، وهي بهذا المعنى قدرة تتعلق بنشاط، يجري في مستوى أعلى من المستوى الذي تم فيه الإنتاج نفسه، ويرمي إلى تعديل تقنية الإنتاج أو التوصل إلى تقنيات جديدة.
نخلص مما سبق إلى أن التكنولوجيا تمثل نمطًا للفعالية الإنسانية يتمتع باستقلالية نسبية عن النشاط الإنتاجي نفسه، وكذلك عن العلم، فالنشاط الإنتاجي يستهدف إنتاج سلع أو خدمات مطلوبة للمجتمع، والعلم في التجريد النهائي يستهدف الوصول للحقيقة، في حين أن هدف التكنولوجيا تغيير الواقع.
التكنولوجيا تمثل نمطًا للفعالية الإنسانية يتمتع باستقلالية نسبية عن النشاط الإنتاجي نفسه، وكذلك عن العلم
حامد الموصلي
والتكنولوجيا بهذا المعنى أيضا هي نتاج حضاري، وفي الوقت نفسه، أداة لإعادة إنتاج الحضارة، ولهذا فإن الاستمرارية الحضارية -أي قدرة الحضارة على إعادة إنتاج نفسها والحفاظ على وجودها- رهن بالفعالية التكنولوجية. وكما أن ضمور القدرات التكنولوجية يؤدي إلى الاغتراب والاضمحلال الحضاري، فإن الإبداع التكنولوجي الذاتي هو أحد الأدوات المهمة للتجدد الحضاري.
وبالمعنى نفسه كذلك، فإن التكنولوجيا رفيق ملازم لمسيرة التطور الإنساني على مر العصور، ووجود لاحقة ’logy‘ -ومعناها العلم- في نهاية مصطلح التكنولوجيا Technology لا يعني بالضرورة ارتباط التكنولوجيا بالمنهج العلمي التجريبي، كما ظهر في الغرب وساد خلال القرون الثلاثة الماضية، وما يستتبعه ذلك التصور الخطأ من أن التكنولوجيا بوصفها قدرة أو نمطًا للفعالية الإنسانية غريبة الطابع والمنشأ، وما يحولها في الكثير من الأدبيات الشائعة إلى سلعة غربية تُشترى وتُنقَل.
من الفهم السابق للتكنولوجيا نستنتج أولاً: أنه من الممكن أن يكون هناك علم دون أن تكون هناك تكنولوجيا: أي أنه يمكن أن يجرى نشاط علمي مكثف دون أن يكون له أيُّ مردود تكنولوجي؛ أي مردود يتعلق بتحسين الواقع الإنتاجي والتفاعل معه.
وثانيًا: أن يكون هناك تكنولوجيا دون علم بالمعنى السائد للعلم حاليًّا، أي إدراك النظرية العلمية والقوانين العلمية الحاكمة للظاهرة في صورتها العامة والمجردة.
ولا يمنع هذا وجود إدراك ما للحقيقة العلمية -ولو في بعض صورها الخاصة- عن طريق تراكم المشاهدات والخبرات، بالإضافة إلى الحدس الذي كان لدى هؤلاء التكنولوجيين المجهولين في التاريخ، وكانوا وراء اختراع الكثير من التقنيات المهمة التي تأخذ أبصارنا وعقولنا حتى الآن؛ مثل بناء الأهرامات والمسلات والتحنيط... إلى غيرها.
لا يؤدي مجرد نقل التقنيات إلى انتقال القدرة على إبداع التقنيات، أي التكنولوجيا حامد الموصلي
نقل التكنولوجيا
أصبح مصطلح نقل التكنولوجياTechnology Transfer من أكثر المصطلحات شيوعًا في مجالات التنمية، والعلاقات بين الشمال والجنوب؛ الشمال المتقدم تكنولوجيا والجنوب المتخلف تكنولوجيا ونحن منه. والمصطلح كما يستخدم اليوم مرتبط بمغالطتين في منتهى الخطورة.
المغالطة الأولى: أن المصطلح يفترض علاقة نقل أحادية الاتجاه بين طرفين: أحدهما فاعل إيجابي يعطي، والآخر سلبي متلق يأخذ، وتشبه عملية النقل ملء وعاء شاغر لا يتغير شكله خلال عملية النقل.
أخطر ما يرتبط بهذا التصور الافتراض الضمني أن الطرف المتلقي ليست لديه تكنولوجيا؛ فالفهم الدارج لنقل التكنولوجيا لا يضع اعتبارًا للتفاعل مع أي قدرات تكنولوجية محلية ما، فهو يفترض وجود ’فراغ‘ تكنولوجي يتوجب بالتالي ’ملؤه‘.
والمغالطة الثانية: هي افتراض المصطلح أن التكنولوجيا ’شيء‘ يمكن نقله ببساطه من سياق اجتماعي حضاري لآخر، وأن العملية تخضع لاعتبارات فنية اقتصادية محضة.
بيد أن الدروس المستفادة من هنا وهناك بدول الجنوب تؤكد أن التكنولوجيا –من حيث كونها قدرة– غير قابلة للنقل عمومًا. وأن ما جرى –ويجري– نقله هو المعدات أو الآلات، وبدرجة أقل التقنيات، ما حدا بالمؤرخ اللبناني أنطوان زحلان لصك مصطلح ’النقل الخالي من التكنولوجيا‘Transfer-free-of-technology؛[2] وصفا لتجربة محمد علي في بداية القرن الماضي، وتجارب الدول العربية خلال فترة الستينيات والسبعينيات من القرن نفسه في مجال نقل التكنولوجيا بالمفهوم السابق.
صحيح أنه من الممكن انتقال مكونات للقدرة التكنولوجية مع المعدات والتقنيات، إلا أنه إن لم تُبذل -على التوازي- جهود مضنية لبناء قدرات تكنولوجية ذاتية، فلن يحدث استيعاب ولا تفعيل لهذه المكونات.
إن الفهم الخطأ لمصطلح نقل التكنولوجيا ينبع من الخلط بين مفهوم الطريقة Technique والتكنولوجيا Technology.
لكي نوضح هذا الخلط، يمكننا تشبيه التقنية بالفكرة، والتكنولوجيا بالقدرة على التفكير. فالتقنيات هي نتاج للتكنولوجيا التي هي قدرة، كما أن الأفكار نتاج للقدرة على التفكير، والأفكار قابلة للنقل كما أن التقنيات تقبل النقل كذلك بدرجات متفاوتة من الدقة.
لكن هل القدرة على التفكير قابلة للنقل؟ أو هل يؤدي مجرد نقل الأفكار إلى اكتساب القدرة على التفكير؟ الإجابة المفترضة هنا هي النفي.
كذلك لا يؤدي مجرد نقل التقنيات إلى انتقال القدرة على إبداع التقنيات، أي التكنولوجيا، بل إن نقل تقنيات –سواء بصورة صريحة أو مجسدة في معدات أو خطوط إنتاج– غير مناسبة قد يؤدي إلى الإضرار بنمو القدرات التكنولوجية الذاتية.
من هنا، يمكننا إذن صياغة المعيار التالي: أن نقل المعدات أو التقنيات مفيد تكنولوجيًّا فحسب، إذا أدى إلى حفز القدرات التكنولوجية الذاتية وتنشيطها ودعمها.
إن الموقف السائد في المنطقة العربية بأسرها؛ يقوم على فكرة ”شراء العبد ولا تربيته“، أي استبدال بناء القدرات التكنولوجية الذاتية، بمجرد شراء المعدات والتقنيات، وهو موقف قصير النظر، غير صبور على البناء.
خطورة هذا الموقف، أنه سيؤدي إلى نوع من إدمان التبعية للأقوياء تكنولوجيًّا؛ فالتسارع الهائل في التطور التكنولوجي سوف يجعل من الضروري الاعتماد على الآخر في استيراد المعدات والتقنيات، التي تتقادم معنويًّا بشكل أسرع جدًّا مما سبق، كما يحدث الآن مثلاً في مجال الكمبيوتر.
ليست هذه دعوة إلى الانغلاق دون المنجزات التقنية الحديثة، على الإطلاق ليس الأمر كذلك، بل هي دعوة للاهتمام بالمردود التكنولوجي لعلاقتنا بالعالم.
قد يبدو هذا مناقضًا للقول بأنه كلما زادت قدراتنا التكنولوجية الذاتية، تمكنَّا أكثر من انتقاء وهضم واستيعاب تقنيات ومكونات تكنولوجية تنقل إلينا من الخارج، وتؤدي بالتالي إلى المزيد من تقوية قدراتنا التكنولوجية، لكنه صحيح.
* الدكتور حامد إبراهيم الموصلي: أستاذ متفرغ بكلية الهندسة جامعة عين شمس المصرية. رئيس مجلس إدارة الجمعية المصرية للتنمية الذاتية للمجتمعات المحلية.
هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
[1] المعجم الكبير، الجزء الثالث، (مجمع اللغة العربية بالقاهرة، 1992).
[2 ] Antoine B. Zahlan, The Impact of Technology Change on the Nineteenth Century Arab World In: Between the State and Islam (Woodrow Wilson Center Series, 2001).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
http://www.scidev.net/mena/enterprise/analysis-blog/Arab-analysis-the-chimera-of-transfering-technology.html?utm_source=facebook&utm_medium=social+media&utm_content=publishing+article&utm_campaign=broadcast+content
تعليقات
إرسال تعليق