تســول بكـل اللغـات. / بقلم الــسعــيد مــرابــطــي
بقلم الــسعــيد مــرابــطــي
تســول بكـل اللغـات.
فتنـة بـدوي..
تفاحتان عليهما دم مراق. حرارة من جَلنار.الاثنتان أغدقتا في ذكاء اللون تسبحان شمالا،تكتسبان الشكل منه.إجاصات ثلاث غرقن يمينا في العسل وانسكاب الدلال العابث؛ لا يفصل بيننا سوى خيط العبق الرفيع. وذي خوخة طازجة اغتبطت في نار الشقائق لا أكاد أطرد عنها نظراتي حتى تستقر ثانية عليها،فإذا هي لكأنما تملكت حجما أكبر وفضاء جديدا!.. ما هذا البذخ المستحضرالمستفز لشهـية تـورط وانفتاح نهم مسبوق بلعاب؟..
فاكهة تستهويك تلهو بجوارحك، حواسك وذاكرتها:ها مدُ طرفك لامسني، ذق مما تشتهي!..تحثك فتستجيب: أنا صافية المنبت، المجرى والقطف. تهمَ أنت ولا تجرؤ.
الطاولـة كدعابة هيئتها أنيقة.تموضع الكوكتيل عليها جـَد مستساغ. يمهل النظرات ولا يزعجها حتى يمرح فيه الذوق ما بين ترتيب وإهمال، هكذا ليروق كل مزاج.
وأنت تقف حذو العقل المتفائل ، حدثني يا سيدي عن هذا الاستفزاز المريب. منأين جئتم بكل هذا الترف المباح لخيـال الخاصة ؟
مزية ولاككـل المزايا. وجبةولا ككل الوجبات. نقيض يبعثـرني شـتاتا في متناول أزقتكم وأنهجكم ، يجعلنيأستطرد قصة الاستفهام دونما خـجل.
ولأنني عربي فالاستطراد يا سيدي هو إرثي الوحيد الذي حرص على حفظه لي أجدادي.
محض صدفة جاء حضوري على عكس هذا الوافد على الذمة يتأمل غير آبه بمماحك انخرط يرشق أسماع الزوار بعبارات مخادعة. مدارات..أحاديث على درجة من الازدحام. يشكو الرواق المدبج للغرض تخمة في العرض!..
هنا أكسيجين الحياة ، راحة الأرواح ..صدى إنسانية يطفو!..
لعلَه ضرب من الدهشة إذ وقفت أمم اللوحة أزدرد يقظة أصباغها. كوامني في استنفار تدفقت في توهج. كم ذا أستطيب المقام وكم يظل يلزمني لأستعيد توزنا بالمعادلة ؟..دعني قليلا أتعرف على ذاكرة حواسي وهي تستأنف نشاطها المتشظي.الآن نطَ بذهني أحد الأسماء التي عقلت لها بوريقات كناش من جملة ما قرأت: -لنا الفن حتى لا نموت بالحقيقة *."
عفوا يا سيدي ، فنَكم اشتباك تشنج صرف ، لا ينسيني حقيقتي بل يزيدها مجابهة لي. يذكرني الآن بمغص في الأمعاء. البارحة عجزت على دفع سعر كعكتين لبائع متجول ، فاقتصرت على كعكة يتيمة وبتَ أدَعي بأن الماء أفضل ما يستوجبه قضاء ليلة صيفية.
الأشكال، الألوان، المضامين..عبث سلطانها بسحنة الزوار.
وحده الذوق أطبق يرسم نقاط تعجب !!!
لست حذقا ولا أدعي مدنية سلوك، فأنا بدوي في كل اتجاه. غير أن الشيء بالشيء يذكر...ثمَة لوحة تماما في قصي زاوية الـرواق، سرها الخاشع استوقف أكثر من كوكبة.ما مرت إحداهن إلا وحانت من بعضهم التفاتة عطف مغلَفة بشفقة ، تلوَح بأن اللوحة حقا آسرة.هي ذي لوحة الطفل الباكي المشهورة.
كيف لي بإخفاء تـبرمي عنها لما أعيرها من تأويلات أغلب ضني لا يوافقني عنها عشاقها...لا يهم ! فاللوحة طال سيطها الآفاق وليس رأيي ما سيقلل من شأنها أو يطفئ من إشراق رونقها ، بعد أن عانقـت دور الدنيا واكتسحت المطابخ . ربما أدخلت شيئا من الوقار حتى على نفوس الخدم والحشم.
أبـواب الــسمــاء..
ستائر المخمل مسدولة بشكل يبيح للغرفة رشف ضـوء النَهار. هذا يريحني أكثر ، فغرفة لا يمرح غزل الشمس فيها لا تستيقـظ. حاجتي للشمس حاجة مزاج أمره محسوم.أنا خلاصة لطقس شموس تصحو بـبلد، ترشه ، تلفَه
تجلده ولا تؤذيه. تصحو تناديه : أنا ثروة وبالجان!.. غير أننا طيبون ولأننا كذلك نريدها للمزاج لاغير.
شكل الستائر يبدو على نوافذ الخان أجنحة حمائم تـتوثَـب للطيران. النظافـة والأناقـة فيه على صلح مستديم. صاحبة الخان ذواقة ومن طراز محافظ : -أمسكوا عن عادات سيئة ، أنا لا أريد جعَات شراب أو شيئا من هذا القبيل. صرامتها في تدبير الشؤون، نبرتـها الآمرة لم يعفياني من مراقـبة هندامها وهي تنصرف جارة ذيلا أسود لأجنحتها المسيحية.
عند الظهيرة قضمت خبزا وحبة تفاح لم أذق لا أشهى ولا ألذَ. حمدلت ، كبَرت ، صلَيت. الوساوس التي راودتها بشأني، طردتها بعد مراقبتها لطقوس صلاتي.
شاء غروب شمس البارحة أن يشهد خيال شخصي وأنا أرشف بمعيتها قهوة معطرة أعدتها خصيصا بمقصورتها ثم دعتني لأقاسمها لحظات ثقة وطدتها أبواب السماء.
حـلـيب الـبمـبـيـنو *..
الوقت متخفَ وزئبقي... هي ساعة أو تزيد، جمحت بي الأفكار بعيدا.. استلـَّـني هوى النفس تمشَيت مفتونا!.. هذي روما على مصراعيها كل الطرق تؤدي إليها. أنا الآن ملء أحضانها تهب لي متسعا شاغرا. هنا الآثار الناجية من الزمن تنفث رائحة قياصرتها وملوكها. ها ساحاتها..باحاتها..تذهب فلول فضول. تخمد قليلا رغبة قيصرية ، كم راودتني هنالك بـشكل لا يوصف. على الأحرى أرغمتني هنا على جلوس مباغت فوق مقعد حجري مباغت
صامت لا يكلم الدنيا إلاَ تهكما بها.إذا ما حانت مني التـفاتة ، تشبـثت أطالع ذاك المحيا الأشقر يشع كينبوع ، رحت أوغل في الشرود:
– أتراه طيف كليوباترا سعى حقبا ضوئية خصَيصا ليتوزع في سمات حسناوات روما كيما يبعث في الدنيا الهيام القديم ؟..
- لم كل شيء هنا يشعرني بالترف المبالغ فيه:الأكل، المشروبات، اللباس، العمران، الجمال ؟..
أو يكون الفقر مقصورا فقط على أمثالي في ما اشتهي وما لا أشتهي؟!..
لا ريب في أنني أطلت التجوال نهارا، أهبط من شارع إلى ساحة، أعبر زقاقا شاحب الملامح. أمشي منكس الجبين تظاهرا بطمأنينة أهل البلد ورأسي تمـور بصور الأمكنة والمآثر ؛ تزرع في خواء الذات احتفالية الظفر والقداسة.هنا على سطح الذاكرة نقر بلا هوادة يأتي من واجهة الكوليزيوم، يسوق صدى ملاحم المتصارعين تهيئة فريسة للأسود، وهتاف جموع تسعى للإطاحة بغريم بطل ألَهوه دونما إذن من كهنة القيصر.
هو الكولـيزيوم مفخرة روما، لا تدخلنَه وإلاَ سيبطشنَ بك بهاءه وصداه!..
ممشاي صمت ضاج وأنا بين أحجار زقاق شاحب الملامح حـتى أفـقت على نبرتها الإيطالـية وصورة يسراها ماسكة بيمنتها طفلها المتوعك الخطى .
وعيت غرض تلك السيدة ذات العقد الرابع ، غير أنها لم تمهلني لحظة تدبر حيث راحت تسوق الأمر ذاته بإنجليزية دارجة ، سرعان ما أردفـتها بفرنسية مستهجنة اللكنة:
- شملتك عناية الرب ، أرجوك ، تصدق عليَ لأطعم البمبـينو*حليـبا وخـبزا !..
قرع أجراس غمر طنينها روما العصرية.
ناولتها قطع الليرات متلعثما عند إفراغ جيوبي.أجش كانت نبرتها وهي تلح بالشكر
وتنصرف.
ضجَت طواحـين رأسي إثر إيابي بالطائرة. لذت بحديث النفس أكلمها بشأن لوحة الطفل الباكي:
-كان أجدى بصاحب المعرض أن يعلَقها إلى جانب لوحة الفاكهة ذات البذخ الصارخ.
بقلم/ الــسعــيد مــرابــطــي.
ــــــــــــــــــــــــ
* مـقولة للفيلسوف نيـتـشه
* البـمـبـيـنو: الصبي بالإيـطالـية.
تعليقات
إرسال تعليق