حين يصبح القتل أثراً جانبياً،،!،، بين تكاليف النزاع وصخرة المصالحة!! / عبدالسلام أبوخزام
حين يصبح القتل أثراً جانبياً،،!،، بين تكاليف النزاع وصخرة المصالحة!!
عبدالسلام أبوخزام
décembre 2014
بات من الجلي لكل مراقب في شؤون المنطقة الاقليمية أن العرب عموماً والليبيون بشكل أخص – قد أصبحوا الآن يحفظون عن ظهر قلب تكاليف الصراع السياسي (البيني)، ونزاع أطرافه حول رغبة كل فريق في قضم المزيد من مساحات النفوذ السلطوي على رقعةٍ (هلامية) من جغرافيا العمل السياسي وحتى الثقافي والإعلامي الوطني كما هي الحال في مشهد الصراع (الليبي - الليبي)، فحصاد الخسائر المتراكم هنا لا يحتاج الى حاسوب متطور يوصف بالذكاء الخارق أو حتى الغباء العددي ولا الاستعانة بنظرية القيمة الضبابية لرصد نتائجه الكارثية ضمن معادلات الاقتتال القائم بين أطراف هذا الصراع، ويبقى الارتباك وترقب السقوط في بلدي من خصائص المشهد الذي ارجوا أن نستعرضه متخيلاً من خلال لوحة شهيرة للفنان الاسباني (غويا) تلك التي تقاربها تكويناً وموضوعاً آخر لوحات فنان الكاريكاتير الليبي (محمد الزواوي) التي يذكر أنه انتجها قبيل الاحتضار بدقائق في خضم موسم الربيع الذي اقتحم المواسم العربية في غير أوانه على ما يبدو!، فموضوع اللوحة (عن رجلين يتصارعان ويمسك كل منهما بعنق الآخر بينما تغوص أقدامهما شيئاً فشيء في دوامة أشبه ما تكون بالثقب الأسود حتى الركبتين)، وقد تبتلع الدوامة كليهما إلى حيث لا جدوى ترتجى من ندم أواستغاثة، فالمرجح ما دامت حالة الاقتتال والاستخدام المتعمد لفائض القوة وتعزيز مخزونها أن تستيقظ الغالبية الصامتة على كوارث حقيقية ضمن مشهدية أكثر صدامية مما هو ماثل، ولن تقترب من غرف نومهم فقط هذه المرة بل تخترق بالذبح والحرق فُرُش البالغين ومهود أطفالهم ولتنسف الصواريخ الحرارية الدليل والجريمة معاً، وليتفرق دم الضحية (الغالبية الصامتة) بين المتقاتلين من جديد.
هكذا نكون نحن العرب والليبيون قد عرفنا تكاليف النزاع وحفظناها عن ظهر قلب، وما يفوتنا منها يذكرنا به الآخرون ضمن سياساتهم المتبعة في المنطقة، وكذلك في جملة ما تشي به التقارير الدولية والدراسات التي تتناول لحمنا بالتحليل اليومي لتهيء للسبعة الكبار ابتلاعنا دون الاصابة بعسر هضم عظامنا، وهي معلنة في أغلبها بالمناسبة، ما يدفع المرء عنوة إلى قراءة استرجاعية استشرافية في آن معاً لكلمات رئيس أركان قوات الكيان الصهيوني (موشي ديان) إبان حرب الأيام الخمسة في معرض الاستجابة لسؤال احدى الصحفيات وهي تواجهه مندهشة (أليس من الغباء العسكري اعتماد نفس خطة حرب 48 في 67)، حين قال ((لقد اعتمدنا على معطى استراتيجي هو من خصائص العدو،، يبدد الدهشة سيدتي)،، فـ(العرب لا يقرؤون وإذا قرئوا لا يفهمون))،، لتجد هذه الجملة محلها في تصوير الراهن العربي بكل حمولاته الظاهرة وحتى المضمرة.
وآخر من ذكرني شخصياً بها بل بالقليل من تلك السياسات العرجاء، استاذي وصديقي الكاتب والصحفي البلجيكي الفرنسي (ميشيل كولون) الذي التقيته أخر مرة في تونس قبل أشهر، وكم شعرت بالحرج الشديد عندما قارن أوضاع ليبيا في خضم متوالية أزماتها ونتائجها الماثلة بأوضاع فرنسا في أربعينيات القرن الماضي وهي تخرج لتوها من الرزح تحت الاحتلال النازي، وكيف التقى أقطاب التيارات السياسية مبكراً في ذلك الوقت، إذ وبمجرد أن دخلت أول دبابة ألمانية الى باريس سارع اليمين واليسار الى اللقاء معاً، ليشاهد سعى )لويس ارغون) الشيوعي الى (فرانسوا مورياك) اليميني المتدين، مثلما التقى أقطاب الثقافة والفكر في باريس تحت الأرض لتأسيس دار نشر سرية حملت اسم (COMBA) أي (المقاومة)، ليجتمع الكاتبان اللذان جمعتهما صداقة لدودة (سارتر) و(البير كامو) على كتابة افتتاحيتها اليومية بالتناوب، وقد جاء في احدى تلك الافتتاحيات (ان المقاومة هنا صوت الفكر الحر ضد انحطاط الوعي والعنصرية، وهي ثورة العقل لحسابه كي لا يتحول المقاتل إلى قاتل،، وهي صرخة الضمير كي لا تبرر بشاعة الحرب انتهاك الانسانية)،، وقد كانت هذه الجمل كافية لاستمرار لقاءهما بعد التحرير لتأسس ضمن برامج المصالحة قاعدة مفادها (ضرورة تحقيق المصالحة الوطنية دون إقصاء لتيار أو ازدراء لفريق لتشمل حتى هؤلاء المتعاونين مع الاحتلال، ودون اهدار لقيم العدالة).
هنا سألني الصديق الفرنسي أيهما كان المارشال بيتان وحكومة فيشي.. طرابلس أم بنغازي؟ هل هي التيارات الإسلامية أم العلمانية والليبرالية،،؟ لم انبس ببنت شفى،، ليعود فيسألني كم ليبياً بقى في ليبيا؟ وكم ليبياً معالقاً بين السماء والأرض خارجها؟ وكم لاعباً دولياً يبدوا الجميع مترقباً لأدائه، والترقب المقصود هنا هو ذلك الذي يرتهن الفرقاء إليه في تقرير خطواتهم التالية!!؟ ما نشط مخيلتي الغرائبية لطرح استفهام مع ذاتي حاصرني هو الآخر بجيش من الأسئلة،، هل كان اعتراف رئيس مؤتمرنا الموقر (أبو سهمين) بما سماه (دولة إسرائيل) في كلمته التي ألقاها ضمن مشاركته باسمنا جميعاً بمؤتمر القمة العربية المتهاوية، هل كان هفوة فعلاً كما ادعى!!!،، أم كان مناوشة هي أقرب للمغازلة واستجداء العون من فاعل إقليمي ضمن معادلة لعب الأقوياء في المنطقة!،، أم كان اعترافاً مدفوع الثمن مسبقاً أيضا ضمن تلك اللعبة بمعادلتها المتشابكة وتقاطعاتها على جلد بلادنا؟،، هي أسئلة أقر منذ الآن بأنها لا تدعي البراءة.
غير أني وكما استبد بي الصمت لم أجب أيضا على أسئلة صديقي الثمانيني،،! لكن عينيّ كما قال لي افتضحتا أمر ما يدور في رأسي وصدري وما بينهما، فقد علقت بهما دمعتان تحجرتا ذات غبنٍ بوطن ولم تسقطا، لكنهما حجبتا وجه العجوزعن مدى بصري،،!.
تلك تكاليف النزاع عرفناها عبر خوض مرتبك بين البشارات الفضفاضة التي لم تنتج غير المزيد من الامتحانات القاسية، والمخاضات العسيرة تتبعها في كل مرة جملةٍ من الكبوات والانكسارات التي لا تنتهي ليصدق في حقها المثل الشهير (تمخض الجبل فولد فأراً)، ويبقى الأمل معقوداً على احتمال الاعتبار من عبر الاخطاء واستعادة الوعي بفداحة الكارثة.
أما تكاليف المصالحة الجوهرية تلك التي لا يتفق الجميع على شيءٍ حتى الآن إلا على تعطيلها، تلك المصالحة المرتكزة على المصارحة والمكاشفة كإجراءات استراتيجية تؤسس لبنية وعي جديد يعني التغيير والمغايرة والاستفادة من تراكمات التجربة القاسية، فنادراً ما يذكرها أحد، ما دفع مفكراً شاباً من ليبيا هو (عبدالسلام زاقود) أن يذكّر بضروراتها فيما يشبه الصرخة المكتومة (إن المصالحة الوطنية هي الرسالة الأكثر نُبلاً من بين ما نستطيع أن نقدمه للوطن، إن الوازع الديني، والواجب الوطني يُحتم على جميع الليبيين الإذعان للمصالحة الوطنية، والاعتراف بالخطأ في حق الوطن، بلا مكابرة ولا مزايدات،،)، ووغيرها أكثر من صرخة ودعوة مماثلة،، غير أن الوقائع يثبت عزوف المعنيين عن الاستجابة ضمن راهنٍ تبدوا مقدماته في تناول موضوع المصالحة في حالة سفر دائم فلا تبلغ الذروة المجدية والجدية أبداً، ولا يدبر لها حتى الآن إلا من خلال مظاهر صوتية تبدوا متوجسة على ايقاع أزيز الطائرات المخترق لجدار الصوت في مشهد التراشق بين طبرق وطرابلس في لعبة الموت، تعززها أخرى تروح وتغدو سعياً في أجواء المنطقة ليس بين الصفا والمروة، بل بين (الرياض) و(دبي) و(أنقرة) و(الدوحة) و(فاليتا) و(روما)، وحتى دول الجوار المأزومة بتفاصيلها الداخلية الطويلة من (السودان والنيجر) إلى (مصر، تونس والجزائر)، وما لا ندري من عواصم العالم الساعية لبسط سيطرتها الكاملة على المنطقة، ولا يلتقى أطراف الصراع إلا في فنادق لا تقل عن خمس أو سبع نجوم بدول الوساطات الخاسرة مسبقاً، وولا يجد الجميع ما ينفق داخلياً غير أن يوميات تلك اللقاءات تعد بآلاف الدولارات لكل ليلة أو ليلتين، والحصيلة الوحيدة الظاهرة هي تراكم من التسويف والاخفاق والارتهان لصالح الارتهان لإرادة السبعة الكبار في لعبة الأقوياء ومصالحهم المتقاطعة في بلدي ما يضاعف من احباط الشعب الذي ينتظر العودة عن الطلاق الوطني القائم بأسرع وقت قبل أن يتطور الأمر إلى إعلان الخلع من طرف واحد بفاتورة باهظة من الدماء والأشلاء واللآلام والأيتام وتبقى الطريق إلى المقابر مفتوحة دون أشعار أخر.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، أذكر هنا ما رواه لي منذ أيام قريبة، سفير دولة لاتينية تجمعنا الصداقة والصحافة، فقد قضى فترة طويلة من سنوات عمله ممثلاً لبلاده لدى ليبيا، حيث أخبرني برواية مفادها أنه أثناء مشاركته ضمن فعاليات مؤتمر أصدقاء ليبيا الذي عقد بـ(روما)، أنه فوجئ بنصف أعضاء الوفد الليبي تقريباً على متن طائرة اقلعت من لندن وعلى قائمة ركاب الدرجة الأولى، وحين رحب به أعضاء الوفد بعد أن عبروا له عن مدى غبطتهم بهذه الفرصة الثمينة للحديث معه حول بعض القضايا، بادرهم بما لم يخطر ببالهم على الاطلاق،،!،، سائلاً اياهم، ((لماذا حضرتم من (لندن) دون (طرابلس)؟، ولماذا تركبون الطائرات بالدرجة الأولى وأحوال شعبكم كما نراها ونشعر بها،،؟،، من حصار للموانئ النفطية إلى اقرار ميزانية متقشفة للغاية ربما لا تمكن الدولة من الإيفاء بالتزاماتها الأساسية،،!،،، وأرجو ألا تقارنوا وضعكم بحالتي فأنا أحضر لا بصفتي الدبلوماسية فقط ولكن أيضاً بصفتي كاتب أعيش من دخلي ويفرض علي السّن مثل هذا الاختيار المريح والمكلف))،،الطبع صمتوا.. لأن الصمت هنا ملاذهم،، وربما لا يزالون صامتين عن أمور كثيرة غير هذه!، فالثرثرة كلها عن مخلفات الحرب والنظام السابق وعن مصالحة أشبه ببطل احدى مسرحيات (صموئيل بيكت) الذي يأتي ولا تأتي!، لكن الطبعة الليبية الجديدة من هذه المسرحية التي تنتمي الى مسرح العبث أو اللامعقول بامتياز هي أن المصالحة الوطنية الحقيقية تلك التي تقارب جواهر الخلافات في العمق أبعد من الجلد واللحم تأتي فقط كي تعتذر عن قدومها!! وكأنها تسجل بذلك لفت الانتباه لضرورتها للمرة الألف بعد الـ(6) مليون مواطن ليبي حسب ما يشاع حول تعدادهم.
ان الحقيقة الوحيدة التي لا جدال فيها بين اشتباك المواسم وتحولها عن فصولها هو أن المصالح سدنة المنظمة الدولية في مبناها (النيوركي) الهرم هي من باتت في ربيعها الآن، وأما الوفاق العربي عموماً والليبي الوطني خاصة بات متجاوزاً ربيعه إلى خريفه أو ربما إلى فصل لا يوجد بأية تقاويم غير تقاويمنا العربية، ولن يغير في تفاصيل المشهد تغيير (متري) بـ(برناردينو) شيئاً يذكر سوى مزيد من تكريس الترقية الكهنوتية للعابرين على المعبد (النيوركي).
لقد مرّ زمنٌ كان فيه الغرب يشتري الوقت للتفاوض حول شيء من مصالحه، وكانت فيه )اسرائيل) تشتري الوقت لاستكمال ما تسميه حرب استقلالها، لكنهما الآن يحصلان عليها بالمجان!، وفي أحسن الأحوال تسدد الفواتير من عوائد دمائنا، ربما لأننا بتنا نحسن تصدير فائض نتائج تناحرنا المُنتَجَ بغزارةٍ هنا إلى ما وراء البحار،، وربما لأن اللاعبين الكبار باتوا أكثر حضوراً بين ظهرانينا حتى وإن تواروا خلف كثير من الوجوه المألوفة حتى بأقنعتها على اختلافها، وغير أنهم قد امتدت ايديهم هذه المرة بقفازاتها محلية الصنع على الجغرافيا الوطنية من أركانها الأربعة، ولعل هذا أقل ما تكشف عنه جملة الوثائق المسربة خلال الأيام الماضية حول تعاقدات لا تقل عن (المليوني US $) مع جماعات الضغط الكندية سيئة السمعة لتعزيز ودعم قدرات المسلحين اليبيين بهدف تقسيم البلاد،، وعقد أخر مع شركة يملكها (الصهيوني المتعصب) (بن ميناشي) الحاصل على الجنسيتين (الصهيونية) والكندية، وبذات القيمة تقريباً، وذلك لغرض التسويق لحكومة طرابلس وتحقيق الاعتراف بها دولياً.
كم هم محظوظين بأعدائهم، وكم نحن تعساء حتى بأصدقائنا.
ليقف هنا إخوة التراب وهم يلعنون الكل عندما حل من تشويه في بنية الوعي العام، ومن تشطير مخل يشي وربما يهدد هذه المرة بقرب زوال وفناء الجميع كمقاربة موضوعية لا تنطوي على أدنى مبالغة،،، وليبقى المواطن ذلك الذي ينتصب من هول المشهد حين يصبح القتل أثراً جانبياً، وهو يلوذ بأدوات إعلان الرفض للواقع المخل من السبات المدني السلمي واعتزالٍ للحياة وللمجالات الحيوية، فيما يشبه صرخة صمت جماعي، ولسان حاله يدين الجميع،، كفى انتحاراً مرة باسمنا وأخرى بسم الوطن وما حمل، وبسم صيانة الدم المسفوح على جوانبه تارة أخرى يا من )توليتم) أمر القتل إما رغباً أو غلبة،، متى تخرجون علينا بفاعلية معفية من الارتهان لسياسات الكبار في المنطقة،،؟ ومتى تكفون عن لحس المبارد على طريقة القطط أمام المجازر، فالدم الذي تستعذبونه هنا هو دمنا ولحمنا معاً لا نستثني منا أحداً، غير أنَّ لنا مثابرة (سيزيف) رفيقاً كلما هوت صخرة المصالحة عن قمة الأمل اعدناها رغم الألم تميمة ضذ التلاشي في إلى العدم ومحض تمرد من جوف الضعف بغير رصاص، إلى ذلك الحين يبقى زمنكم أجمل وأبهى، ظلمٌ وظلام.
بات من الجلي لكل مراقب في شؤون المنطقة الاقليمية أن العرب عموماً والليبيون بشكل أخص – قد أصبحوا الآن يحفظون عن ظهر قلب تكاليف الصراع السياسي (البيني)، ونزاع أطرافه حول رغبة كل فريق في قضم المزيد من مساحات النفوذ السلطوي على رقعةٍ (هلامية) من جغرافيا العمل السياسي وحتى الثقافي والإعلامي الوطني كما هي الحال في مشهد الصراع (الليبي - الليبي)، فحصاد الخسائر المتراكم هنا لا يحتاج الى حاسوب متطور يوصف بالذكاء الخارق أو حتى الغباء العددي ولا الاستعانة بنظرية القيمة الضبابية لرصد نتائجه الكارثية ضمن معادلات الاقتتال القائم بين أطراف هذا الصراع، ويبقى الارتباك وترقب السقوط في بلدي من خصائص المشهد الذي ارجوا أن نستعرضه متخيلاً من خلال لوحة شهيرة للفنان الاسباني (غويا) تلك التي تقاربها تكويناً وموضوعاً آخر لوحات فنان الكاريكاتير الليبي (محمد الزواوي) التي يذكر أنه انتجها قبيل الاحتضار بدقائق في خضم موسم الربيع الذي اقتحم المواسم العربية في غير أوانه على ما يبدو!، فموضوع اللوحة (عن رجلين يتصارعان ويمسك كل منهما بعنق الآخر بينما تغوص أقدامهما شيئاً فشيء في دوامة أشبه ما تكون بالثقب الأسود حتى الركبتين)، وقد تبتلع الدوامة كليهما إلى حيث لا جدوى ترتجى من ندم أواستغاثة، فالمرجح ما دامت حالة الاقتتال والاستخدام المتعمد لفائض القوة وتعزيز مخزونها أن تستيقظ الغالبية الصامتة على كوارث حقيقية ضمن مشهدية أكثر صدامية مما هو ماثل، ولن تقترب من غرف نومهم فقط هذه المرة بل تخترق بالذبح والحرق فُرُش البالغين ومهود أطفالهم ولتنسف الصواريخ الحرارية الدليل والجريمة معاً، وليتفرق دم الضحية (الغالبية الصامتة) بين المتقاتلين من جديد.
هكذا نكون نحن العرب والليبيون قد عرفنا تكاليف النزاع وحفظناها عن ظهر قلب، وما يفوتنا منها يذكرنا به الآخرون ضمن سياساتهم المتبعة في المنطقة، وكذلك في جملة ما تشي به التقارير الدولية والدراسات التي تتناول لحمنا بالتحليل اليومي لتهيء للسبعة الكبار ابتلاعنا دون الاصابة بعسر هضم عظامنا، وهي معلنة في أغلبها بالمناسبة، ما يدفع المرء عنوة إلى قراءة استرجاعية استشرافية في آن معاً لكلمات رئيس أركان قوات الكيان الصهيوني (موشي ديان) إبان حرب الأيام الخمسة في معرض الاستجابة لسؤال احدى الصحفيات وهي تواجهه مندهشة (أليس من الغباء العسكري اعتماد نفس خطة حرب 48 في 67)، حين قال ((لقد اعتمدنا على معطى استراتيجي هو من خصائص العدو،، يبدد الدهشة سيدتي)،، فـ(العرب لا يقرؤون وإذا قرئوا لا يفهمون))،، لتجد هذه الجملة محلها في تصوير الراهن العربي بكل حمولاته الظاهرة وحتى المضمرة.
وآخر من ذكرني شخصياً بها بل بالقليل من تلك السياسات العرجاء، استاذي وصديقي الكاتب والصحفي البلجيكي الفرنسي (ميشيل كولون) الذي التقيته أخر مرة في تونس قبل أشهر، وكم شعرت بالحرج الشديد عندما قارن أوضاع ليبيا في خضم متوالية أزماتها ونتائجها الماثلة بأوضاع فرنسا في أربعينيات القرن الماضي وهي تخرج لتوها من الرزح تحت الاحتلال النازي، وكيف التقى أقطاب التيارات السياسية مبكراً في ذلك الوقت، إذ وبمجرد أن دخلت أول دبابة ألمانية الى باريس سارع اليمين واليسار الى اللقاء معاً، ليشاهد سعى )لويس ارغون) الشيوعي الى (فرانسوا مورياك) اليميني المتدين، مثلما التقى أقطاب الثقافة والفكر في باريس تحت الأرض لتأسيس دار نشر سرية حملت اسم (COMBA) أي (المقاومة)، ليجتمع الكاتبان اللذان جمعتهما صداقة لدودة (سارتر) و(البير كامو) على كتابة افتتاحيتها اليومية بالتناوب، وقد جاء في احدى تلك الافتتاحيات (ان المقاومة هنا صوت الفكر الحر ضد انحطاط الوعي والعنصرية، وهي ثورة العقل لحسابه كي لا يتحول المقاتل إلى قاتل،، وهي صرخة الضمير كي لا تبرر بشاعة الحرب انتهاك الانسانية)،، وقد كانت هذه الجمل كافية لاستمرار لقاءهما بعد التحرير لتأسس ضمن برامج المصالحة قاعدة مفادها (ضرورة تحقيق المصالحة الوطنية دون إقصاء لتيار أو ازدراء لفريق لتشمل حتى هؤلاء المتعاونين مع الاحتلال، ودون اهدار لقيم العدالة).
هنا سألني الصديق الفرنسي أيهما كان المارشال بيتان وحكومة فيشي.. طرابلس أم بنغازي؟ هل هي التيارات الإسلامية أم العلمانية والليبرالية،،؟ لم انبس ببنت شفى،، ليعود فيسألني كم ليبياً بقى في ليبيا؟ وكم ليبياً معالقاً بين السماء والأرض خارجها؟ وكم لاعباً دولياً يبدوا الجميع مترقباً لأدائه، والترقب المقصود هنا هو ذلك الذي يرتهن الفرقاء إليه في تقرير خطواتهم التالية!!؟ ما نشط مخيلتي الغرائبية لطرح استفهام مع ذاتي حاصرني هو الآخر بجيش من الأسئلة،، هل كان اعتراف رئيس مؤتمرنا الموقر (أبو سهمين) بما سماه (دولة إسرائيل) في كلمته التي ألقاها ضمن مشاركته باسمنا جميعاً بمؤتمر القمة العربية المتهاوية، هل كان هفوة فعلاً كما ادعى!!!،، أم كان مناوشة هي أقرب للمغازلة واستجداء العون من فاعل إقليمي ضمن معادلة لعب الأقوياء في المنطقة!،، أم كان اعترافاً مدفوع الثمن مسبقاً أيضا ضمن تلك اللعبة بمعادلتها المتشابكة وتقاطعاتها على جلد بلادنا؟،، هي أسئلة أقر منذ الآن بأنها لا تدعي البراءة.
غير أني وكما استبد بي الصمت لم أجب أيضا على أسئلة صديقي الثمانيني،،! لكن عينيّ كما قال لي افتضحتا أمر ما يدور في رأسي وصدري وما بينهما، فقد علقت بهما دمعتان تحجرتا ذات غبنٍ بوطن ولم تسقطا، لكنهما حجبتا وجه العجوزعن مدى بصري،،!.
تلك تكاليف النزاع عرفناها عبر خوض مرتبك بين البشارات الفضفاضة التي لم تنتج غير المزيد من الامتحانات القاسية، والمخاضات العسيرة تتبعها في كل مرة جملةٍ من الكبوات والانكسارات التي لا تنتهي ليصدق في حقها المثل الشهير (تمخض الجبل فولد فأراً)، ويبقى الأمل معقوداً على احتمال الاعتبار من عبر الاخطاء واستعادة الوعي بفداحة الكارثة.
أما تكاليف المصالحة الجوهرية تلك التي لا يتفق الجميع على شيءٍ حتى الآن إلا على تعطيلها، تلك المصالحة المرتكزة على المصارحة والمكاشفة كإجراءات استراتيجية تؤسس لبنية وعي جديد يعني التغيير والمغايرة والاستفادة من تراكمات التجربة القاسية، فنادراً ما يذكرها أحد، ما دفع مفكراً شاباً من ليبيا هو (عبدالسلام زاقود) أن يذكّر بضروراتها فيما يشبه الصرخة المكتومة (إن المصالحة الوطنية هي الرسالة الأكثر نُبلاً من بين ما نستطيع أن نقدمه للوطن، إن الوازع الديني، والواجب الوطني يُحتم على جميع الليبيين الإذعان للمصالحة الوطنية، والاعتراف بالخطأ في حق الوطن، بلا مكابرة ولا مزايدات،،)، ووغيرها أكثر من صرخة ودعوة مماثلة،، غير أن الوقائع يثبت عزوف المعنيين عن الاستجابة ضمن راهنٍ تبدوا مقدماته في تناول موضوع المصالحة في حالة سفر دائم فلا تبلغ الذروة المجدية والجدية أبداً، ولا يدبر لها حتى الآن إلا من خلال مظاهر صوتية تبدوا متوجسة على ايقاع أزيز الطائرات المخترق لجدار الصوت في مشهد التراشق بين طبرق وطرابلس في لعبة الموت، تعززها أخرى تروح وتغدو سعياً في أجواء المنطقة ليس بين الصفا والمروة، بل بين (الرياض) و(دبي) و(أنقرة) و(الدوحة) و(فاليتا) و(روما)، وحتى دول الجوار المأزومة بتفاصيلها الداخلية الطويلة من (السودان والنيجر) إلى (مصر، تونس والجزائر)، وما لا ندري من عواصم العالم الساعية لبسط سيطرتها الكاملة على المنطقة، ولا يلتقى أطراف الصراع إلا في فنادق لا تقل عن خمس أو سبع نجوم بدول الوساطات الخاسرة مسبقاً، وولا يجد الجميع ما ينفق داخلياً غير أن يوميات تلك اللقاءات تعد بآلاف الدولارات لكل ليلة أو ليلتين، والحصيلة الوحيدة الظاهرة هي تراكم من التسويف والاخفاق والارتهان لصالح الارتهان لإرادة السبعة الكبار في لعبة الأقوياء ومصالحهم المتقاطعة في بلدي ما يضاعف من احباط الشعب الذي ينتظر العودة عن الطلاق الوطني القائم بأسرع وقت قبل أن يتطور الأمر إلى إعلان الخلع من طرف واحد بفاتورة باهظة من الدماء والأشلاء واللآلام والأيتام وتبقى الطريق إلى المقابر مفتوحة دون أشعار أخر.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، أذكر هنا ما رواه لي منذ أيام قريبة، سفير دولة لاتينية تجمعنا الصداقة والصحافة، فقد قضى فترة طويلة من سنوات عمله ممثلاً لبلاده لدى ليبيا، حيث أخبرني برواية مفادها أنه أثناء مشاركته ضمن فعاليات مؤتمر أصدقاء ليبيا الذي عقد بـ(روما)، أنه فوجئ بنصف أعضاء الوفد الليبي تقريباً على متن طائرة اقلعت من لندن وعلى قائمة ركاب الدرجة الأولى، وحين رحب به أعضاء الوفد بعد أن عبروا له عن مدى غبطتهم بهذه الفرصة الثمينة للحديث معه حول بعض القضايا، بادرهم بما لم يخطر ببالهم على الاطلاق،،!،، سائلاً اياهم، ((لماذا حضرتم من (لندن) دون (طرابلس)؟، ولماذا تركبون الطائرات بالدرجة الأولى وأحوال شعبكم كما نراها ونشعر بها،،؟،، من حصار للموانئ النفطية إلى اقرار ميزانية متقشفة للغاية ربما لا تمكن الدولة من الإيفاء بالتزاماتها الأساسية،،!،،، وأرجو ألا تقارنوا وضعكم بحالتي فأنا أحضر لا بصفتي الدبلوماسية فقط ولكن أيضاً بصفتي كاتب أعيش من دخلي ويفرض علي السّن مثل هذا الاختيار المريح والمكلف))،،الطبع صمتوا.. لأن الصمت هنا ملاذهم،، وربما لا يزالون صامتين عن أمور كثيرة غير هذه!، فالثرثرة كلها عن مخلفات الحرب والنظام السابق وعن مصالحة أشبه ببطل احدى مسرحيات (صموئيل بيكت) الذي يأتي ولا تأتي!، لكن الطبعة الليبية الجديدة من هذه المسرحية التي تنتمي الى مسرح العبث أو اللامعقول بامتياز هي أن المصالحة الوطنية الحقيقية تلك التي تقارب جواهر الخلافات في العمق أبعد من الجلد واللحم تأتي فقط كي تعتذر عن قدومها!! وكأنها تسجل بذلك لفت الانتباه لضرورتها للمرة الألف بعد الـ(6) مليون مواطن ليبي حسب ما يشاع حول تعدادهم.
ان الحقيقة الوحيدة التي لا جدال فيها بين اشتباك المواسم وتحولها عن فصولها هو أن المصالح سدنة المنظمة الدولية في مبناها (النيوركي) الهرم هي من باتت في ربيعها الآن، وأما الوفاق العربي عموماً والليبي الوطني خاصة بات متجاوزاً ربيعه إلى خريفه أو ربما إلى فصل لا يوجد بأية تقاويم غير تقاويمنا العربية، ولن يغير في تفاصيل المشهد تغيير (متري) بـ(برناردينو) شيئاً يذكر سوى مزيد من تكريس الترقية الكهنوتية للعابرين على المعبد (النيوركي).
لقد مرّ زمنٌ كان فيه الغرب يشتري الوقت للتفاوض حول شيء من مصالحه، وكانت فيه )اسرائيل) تشتري الوقت لاستكمال ما تسميه حرب استقلالها، لكنهما الآن يحصلان عليها بالمجان!، وفي أحسن الأحوال تسدد الفواتير من عوائد دمائنا، ربما لأننا بتنا نحسن تصدير فائض نتائج تناحرنا المُنتَجَ بغزارةٍ هنا إلى ما وراء البحار،، وربما لأن اللاعبين الكبار باتوا أكثر حضوراً بين ظهرانينا حتى وإن تواروا خلف كثير من الوجوه المألوفة حتى بأقنعتها على اختلافها، وغير أنهم قد امتدت ايديهم هذه المرة بقفازاتها محلية الصنع على الجغرافيا الوطنية من أركانها الأربعة، ولعل هذا أقل ما تكشف عنه جملة الوثائق المسربة خلال الأيام الماضية حول تعاقدات لا تقل عن (المليوني US $) مع جماعات الضغط الكندية سيئة السمعة لتعزيز ودعم قدرات المسلحين اليبيين بهدف تقسيم البلاد،، وعقد أخر مع شركة يملكها (الصهيوني المتعصب) (بن ميناشي) الحاصل على الجنسيتين (الصهيونية) والكندية، وبذات القيمة تقريباً، وذلك لغرض التسويق لحكومة طرابلس وتحقيق الاعتراف بها دولياً.
كم هم محظوظين بأعدائهم، وكم نحن تعساء حتى بأصدقائنا.
ليقف هنا إخوة التراب وهم يلعنون الكل عندما حل من تشويه في بنية الوعي العام، ومن تشطير مخل يشي وربما يهدد هذه المرة بقرب زوال وفناء الجميع كمقاربة موضوعية لا تنطوي على أدنى مبالغة،،، وليبقى المواطن ذلك الذي ينتصب من هول المشهد حين يصبح القتل أثراً جانبياً، وهو يلوذ بأدوات إعلان الرفض للواقع المخل من السبات المدني السلمي واعتزالٍ للحياة وللمجالات الحيوية، فيما يشبه صرخة صمت جماعي، ولسان حاله يدين الجميع،، كفى انتحاراً مرة باسمنا وأخرى بسم الوطن وما حمل، وبسم صيانة الدم المسفوح على جوانبه تارة أخرى يا من )توليتم) أمر القتل إما رغباً أو غلبة،، متى تخرجون علينا بفاعلية معفية من الارتهان لسياسات الكبار في المنطقة،،؟ ومتى تكفون عن لحس المبارد على طريقة القطط أمام المجازر، فالدم الذي تستعذبونه هنا هو دمنا ولحمنا معاً لا نستثني منا أحداً، غير أنَّ لنا مثابرة (سيزيف) رفيقاً كلما هوت صخرة المصالحة عن قمة الأمل اعدناها رغم الألم تميمة ضذ التلاشي في إلى العدم ومحض تمرد من جوف الضعف بغير رصاص، إلى ذلك الحين يبقى زمنكم أجمل وأبهى، ظلمٌ وظلام.
تعليقات
إرسال تعليق