على هامش المعرض../ محمد الرقيق (تونس)



على هامش المعرض../ محمد الرقيق (تونس)

كنت جالسا في حضرة الألواح‚ وكان الجو صاخبا شمالا ويمينا والناس في الشارع الطويل يعبرون‚ نظراتهم مشتتة تخترق الصوت والدكاكين وحفر الأسفلت المنسية.
كنت جالسا أسترق من حين لآخر ألوانهم وحركاتهم وكتلهم الآدمية المتموجة‚ حالة عبور لا أدري إلى أين المصير لعله أفقهم البعيد أو حلمهم الفريد. أدرت رأسي نحو القاعة ودققت النظر في النور الساطع فوق اللوحة المقابلة‚ رأيت كائنا مجرورا بقسوة القيد مشدودا إلى العنق بغل السوط يقاد. قلت في نفسي قدرك النسيان يا تعيس الحظ‚ وما صورتك عندهم إلا حائط حزن يدفنون فوقه مراثيهم.
أدركتني قوة الضوء بسرعة حتى خلت نفسي لا أرى شيئا‚ غير السراب. شددت مرة اخرى فوق رأسي‚ فركت فروة شعري المحلوق‚ وفي الحين جددت النظر في عمق القاعة وإذا بضيف يتجول في أرجائها‚ ابتسمت وقدمت التحية‚ إلا أن الضيف قد أسرع الخطوات نحو الألواح المعروضة. قلت تفضل‚ خذ القائمة وتمعن في الأرقام واحدا بواحد. أدركني بنظرات الواثق من نفسه قائلا꞉"لا أحتاجها"ꜝ وتابع التجوال بين أغلب الألواح بسرعة البرق ورجع إلي مستغربا من أساليب الرسم التي لم يألفها‚ مؤكدا القول على قواعده وضوابطه الأكاديمية. فالرسم عنده لا يستقيم إلا لقوانينه‚ لونا وشكلا ومادة وفق منطق التشخيص الواقعي الحي والخاضع لعلم المنظور.
تداعت الأسئلة واسترسل الضيف في ضبطه لمفهوم الرسم وعن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها حسب رأيه في كل لوحة‚ شعرت حينها‚ أني في حصة التمارين الحسابية في سنوات خلت وأن علم المنطق والخطأ والصواب قد حل بيننا في عالم الرسم ولا مفر من تسليم القماشة والفراشي لأصحابها.
مسحت فوق جبيني ونظرت في عينيه وقبل أن أنبس ببنت شفة شد فوق يدي يسألني ثانية عن تجربتي الذاتية‚ ولما أبلغته بأمر السيرة العلمية والفنية‚ تراجع خطوتين وحك شيبتين في مقدمة رأسه وتلمس مِؤخرة مخيخه مرمشا عينيه ثم فتح فاه قائلا꞉"الظاهر أني أخطأت القول"ꜝ
وانقلب في الحين نفس المواجهة وظهر مقياس التفاضل عنده واستنتج أن قوله يحتمل الخطأ مباشرة.
قلت لا عليك سيدي‚ "هل لك من مزيد؟
قال ꞉لا. ثم تخلى عني بسرعة ورجع إلى الألواح مرة ثانية يقلبها الواحدة تلو الواحدة بنفس النسق المتسارع ثم التفت إلي كالهارب من سخط قدره مقلقلا جمجمته قائلا꞉"أظن أن في الإعادة إفادة"
قلت꞉"كيف وأنت أكاديمي صلب لا تقبل المعاودة‚ الأمرعندك ثابت‚ لا يقبل التجاوز وها أنت تقدم بديلا أراه يتناقض ومبدأك في التقويمꜝ
قال꞉"لا ما أنا بعالم‚ ربما أخطات في الفهم والإدراكꜝ
قلت꞉"أتتراجع يا هذا‚ أتتحدث عن الفهم والإدراك أم عن الرسم والمنظورꜝ

قال꞉"الإثنين معا.
قلت꞉"وأنا كذلك‚ لكني لا أحاكي علم المنظور فقد تركته جانبا بقواعده ونظامه‚ وصنعت لنفسي منظوري الخاص حتى أدرك الأجسام والأشياء بعقلي وقلبي. لقد تركت التمارين جانبا وتعديت الدرس الأول يا سيدي وها أنا في مجرتي أحارب وأشكل نمطا ذاتيا‚ قد يكون أفقا تشكيليا جميلا حلمت به وقد يكون حلما جميلا لا يتحقق. أليس جميلا أن تتعدىꜝ أليس جميلا أن تنتج دون أن تستنسخꜝ
لا عليك سيدي فأمثالك لا يزالون في حلقة اللغة وغوغائها يسبحون ويغرغرون. رجائي ان تبتلع هذه المضغة أو ان تبصقها جانبا فقد كرهناها‚اخرج قليلا من دوامة اللغة التي تكبلك واقترح لنا نصا نقديا من داخل الأثر الذي تراه أمامك ولا تقف كالغراب فوق التلة ينعق ولا تكن سلبيا‚وقل قولا سليما او اصمتꜝ

محمد الرقيق

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح