إشكالية الانتحال في العمل الفني / الفنان التشكيلي والناقد العراقي علي النجار



 
إشكالية الانتحال في العمل الفني / الفنان التشكيلي والناقد العراقي علي النجار

قبل اكثر من شهرين كتبت هذه المقالة ونشر بعضها في الملف التشكيلي لجريدة الصباح الجديد باشراف الصديق الفنان والناقد الفني سعد القصاب. انشرها هنا كاملة .

علي النجار
Najjar Art 
إشكالية الانتحال في العمل الفني / علي النجار
في الرسوم الفنية التشخيصية, بالتأكيد ثمة شخوص إنسية أو حيوانية, كما في تمثلات الطبيعة التي لا تعد, تتشابه أو تتطابق أشكالها, هيئاتها, مجال حركتها, سكونها, ملامح انفعالاتها, تأثيرات العوامل الخارجية على تحولاتها. الأسلوب وحده من يرينا هذا التعدد ألانهائي في اختلاف صياغات الأجساد والأشياء والطبيعة, سواء كان باجتهادات جماعية, او بجهود شخصية. وان كانت الحداثة وما قبلها من عصور الفن لم تخلو من جهد جماعي في صياغة أساليب فنانيها المعروفين, التي لم تخلوا من تدخلات الميثيولوجيا والحراك الثقافي السياسي والاجتماعي لتلك العصور, منذ عصر النهضة وحتى عقد الفن الشعبي(البوب) المفصلي , كبشارة لانطلاق الفورة المعاصرة بشخصيتها الفردية الافتراضية بامتياز.
وسط كل ذلك لا يزال العديد من الفنانين التشكيليين العرب والعراقيين لا يودون مغادرة الأداءات التي أشاعها في وقت ما, فنان معين, من داخل الوسط الفني. ليفرز هذا الوضع شخصيات فنية, لنقل عمومية. لكن وسط التباس الخاص والعام,. وضمن الحرية التي وفرتها وسائل الميديا, والانفتاح على المنجز الفني العالمي بكل أبعاده وزواياه. تنطلق أحيانا اعتراضات أو اتهامات بسرقة عمل ما, ضمن الصياغات الاسلوبية. أعتقد, ليس غريبا ان تنطلق هذه الاتهامات الصريحة بسرقة الجهد الأسلوبي لفنان ما من قبل فنان آخر, بعد ان كانت تدور هذه الاتهامات خلف الكواليس. رغم كون قضية الاتهام واضحة, او غائمة معالمها. فهل بالإمكان وضع معايير نقدية تتوافق وقضية حقوق الملكية الأسلوبية. بل هل يوجد أصلا هكذا قانون معياري في أية دولة عربية. وما شرعية الأثر بعد ان يتحول من جهد شخصي, إلى اثر جمعي مباح. وسط فوضى مفهوم الاقتباس ونسبته, أو نكرانه. إشكالية تدعونا للبحث عن أصل المشكلة عبر التاريخ الفني الغابر والحاضر. بحدود ما متوفر لنا من اطلاع, ربما يبقى قاصرا عن الإلمام بمجمل إشكالية هذه القضية.
المنحوتة اليونانية: اليونانيات الثلاث(إلهات الحسن, أو النعم الثلاث), لم تعد ملكا خاصا لمن نحتها أول مرة, بعد ان تحولت كما هي في الميثيولوجيا إلى اسطورة فنية عامة
. تكررت عند الرومان, و انتقلت إلى الكلاسيكية المبكرة. من بوتشلي مرورا برفائيل حتى روبنز. ثم تحولت الى أنتيك بعد ذلك. ولم يمنع الفنان الأمريكي المعاصر(مايكل باركس) أن يعيد صياغتها رسما عام(2009). المهم آن الهات الحسن, لم تتغير وضعيتهن(البوز) وحتى غالبا ملامحهن, إلا بحدود مستجدات الأسلوب الطفيفة. في كل انتقالاتها الجغرافية والزمنية. لقد حافظت الميثيولوجيا على ملامح هيئتها, وتحولت الى ملكية فنية جماعية. ولم تعد صفة السرقة أو الانتحال واردة او ملتصقة بكل الفنانين الذين كرروا فعل الفنان اليوناني الأول لحد التطابق غالبا.
لم يكن مايكل انجلو, كما دافنشي, رغم انتمائهما للنمط الكلاسيكي لزمنهما. والنمط, هو (الطريقة أو الأسلوب أو الشكل أو المذهب أو الصنف أو النوع أو الطراز)كما يذكر القاموس العربي. كذلك لم يكن كرافاجيو كما تيتسيان, رغم معاصرتهما لبعض. ولم يكن روبنز كما رمبرانت, ولو في حدود اختلافات زمنهما. لقد كان ثم اكتشافات وعوامل شخصية ومستويات ثقافية زمنية وجغر افية, وذوقية عامة وخاصة, تحكمت في إخراج أعمالهم الفنية. إضافة إلى استخدام وتوظيف الخبرات المتراكمة, سواء على مستوى الإنشاء أو التلوين, أو فلسفة العمل. ولم تخلوا الأعمال الفنية من البصمة الشخصية الواضحة, ليس على المستوى الشخصي فقط, بل كبصمة لحقبة زمنية أيضا. فهل نلوم الفنان, او الفنانين, أو نجرم احدهم لاشتغاله على أساليب أو مرجعيات المواضيع المتشابهة, أو المتقاربة, التي استلهموا منها أعمالهم.
العديد من الأعمال الفنية الكلاسيكية الأكثر شهرة استوحيت من أعمال قبلها. كما رسوم السيدة العذراء(المادونا) أو فينوس العارية. على سبيل المثال. كذلك العديد من الرسوم الحديثة الساخرة, ومنها رسوم الدادا. فكم عمل ورسم اقتبس من الموناليزا, ولحد الآن. وهل ضياع الحقوق لتقادم الزمن دخل في ذلك. أم لمجرد سطوة العمل وقابليته التوليدية. أو كليهما.
في مسعى من الفنان الرائد جواد سليم لمعالجة الخلل الكبير في منطقة التشكيل العراقي, الذي كان يفتقر حتى إلى أية مرجعية حديثة, بعد عصور الجفاف المتتالية. ومن اجل أن يجد مخرجا لتأصيل تجربته, حاول إعادة اكتشاف رسوم الفترة الوسيطة, ومنها رسوم الواسطي. لما تحمل من سمات لا تزال مرجعيتها حاضرة في ذهنية الوسط البيئي الحضري البغدادي. لقد أعاد جواد أسلبة التزويق. لكن بفطنة فنان حديث. وكانت بداية تأسيس موفقة. فائق حسن, وهو من مجايليه, كان واضحا أيضا في طرحه التأسيسي, كما جواد, بالرغم من رغبته العارمة لإظهار قدراته الأكاديمية الأوربية. وأعتقد انه كانت لعلاقته الحميمة بجواد دور مهم في محاولاته تطويع مهاراته الأدائية لتنفيذ أعمال ذات ملامح بيئية بأداة حداثية, بشكل خاص في فترة زمالتهما, أعمال تجمع مابين التجريد والتشخيص في آن معا. بالتأكيد لم يذهب جهد جواد, ولا فائق, سدى, فدرس التشكيل هو أصلا متنوع المصادر الأدائية والاستلهامية الثقافية. و خلف فائق العديد من المقلدين. كذلك هو حال جواد سليم الذي كانت عائلته الفنية هي الأقرب إلى اقتباس اسلوبه(البغدادي) بشكل خاص. وكما هو حال بعض من رسوم
ضياء العزاوي أيضا التزويقية الأولى. وهذا أمر ليس خافيا. هل نحسب كل من قلد رسم فائق أو عمل جواد سواء رسما أو نحتا(منتحلا) تنطبق عليه مواد انتحال الأعمال القانونية الدولية, باعتبارها متطابقة او مقلدة لأعمال أخرى. وهل وضع هذا المنتحل(الافتراضي) القانوني, كما هو وضع من زور هذه الأعمال, وعرضها كأعمال أصلية للاستثمار. فمن يلاحق من الطرفين عرفيا وقانونيا. لكن هل تحولت أعمال جواد المنوه عنها, وأعمال فائق ظاهرة نمطية فنية عامة, في التشكيل العراقي, كما إلهات الحسن, وهو ما نعتقده. كذلك ماذا نقول مثلا عن أسلوب النحات محمد غني المتقارب ومنحوتة الأم لخالد الرحال. مثلما هو حال العدد الكبير من النحاتين العراقيين الذين تتلمذوا على يد إسماعيل فتاح الترك, وحافظوا على بصمته النحتية, او مقارباتها.
أنتج الفنانون الحداثيون الروس زمن الثورة البلشفية آلاف البوسترات التحريضية بأساليب متنوعة, منها الفوقية, البنائية, المستقبلية. وباستخدام الفوتوغراف أحيانا, بتقنية الأوفسيت. في العشرينات من القرن الماضي. وارهول وهو من أشهر فناني البوب الأمريكان, لم يكن في الستينيات, إلا وريثا لتلك التقنيات نفسها. مع اختلافات اشتغالاته على مواضيع تنسجم وحاضنته البيئية الأمريكية التسويقية في بداية معاصرتها. الفنان العراقي محمود ألعبيدي هو الآخر أرجعنا لإرث البوستر البلشفي نفسه, في بعض من أعماله المتأخرة. لكنه وهو الفنان المعاصر, كما وارهول, استغل التقنية الموروثة لأغراض مفاهيمية مختلفة. فمن انتحل من. وهل هي سرقة أم تفكيك لمنجز ماضي وإعادة صياغته من جديد بما يناسب مقاصد الفنان.
اشترى الفنان الأمريكي المعاصر الأكثر شهرة(جيف كونز) من احد جوالي الشارع تمثال شعبي صغير يمثل مغني البوب المعروف(مايكل جاكسون) مع كافة حقوق التصرف به, ثم صنع له نسخة مكبرة من البورسلين الملون. لتتحول نسخته هذه إلى تحفة فنية معترف بها. فهل كان جيف كونز بريء من الانتحال, أم غير بريء بتبريريات نقاد الفن.
الأسلوب الشخصي بات مشكوك بثباته في خضم تحولات الفنان أو انتقالاته المعاصرة. ليس كما الزمن الحداثي. بالرغم من بعض الارتباكات الحداثية, كما تكعيبية بيكاسو وبراك المبكرة. لكن هل هذا يمنع من وجود أساليب اقل ما يقال عنها أنها تمثل الفنان. كما رسوم الانكليزي (ديفيد هوكني ) الشديد الخصوصية. ليس كما العديد من الفنانين المعاصرين الآخرين, الذين يجدون في أنفسهم جرأة كافية لخوض غمار التجريب المتعدد الأساليب والتقنيات. بما أن نتاج هؤلاء الفنانين تحكمه اللحظة أو الصدفة, وأحيانا القصد المدروس تفاصيله. في وقت باتت فيه تتقمص غالبيتهم سمة اليقين في اللا يقين. والاكتراث بما لا
يكترث له سابقا. لسعة مساحة اداءات فن اليوم. هل بالإمكان مقاضاة الفنان الانكليزي( داميان هيرست) لاشتغاله على الجمجمة بتقنيات تختلف عما اشتغل عليها الكلاسيكي الايطالي(كارافاجيو) أو العديد من معاصريه. وهل في نية هيرست ان يقاضي من اشتغل على كم جماجم البورسلين المزخرفة في الصين أو الهند. أو الكم الهائل من الاشتغالات عليها كحلية أو إكسسوار. أو مشاريع مفاهيمية متعددة. وهل يقاضي هيرست من سبقه. فهل باتت الجمجمة البشرية ملكا لهذا الفنان أو ذاك, كما هي مفردة القلب الذي اشتغل عليه الفنان الأمريكي(جين دين) و آخرون.
في الأعوام الأخيرة تشير الكثير من أعمال الفنانين العراقيين لنمط معين من الرسوم التشخيصية التي تتداخل أو تتجاور فيها الشخوص الإنسية والحيوانية بأسلوب تعبيري لا يخلوا من تأثيرات مرجعيات سابقة, لحد اعتبارها شكلت نمط ذو ملامح أسلوبية متشابهة. تعيدنا أحيانا لزمن التعبيرية الألمانية, ولفنانين معينين. او للايرلندي( فرانسيس بيكون ). هي بالتأكيد لا تقلد تلك الأعمال حرفيا. فتأثيرات بعض الرواد العراقيين لا تزال واضحة ملامحها, في اللون و التقنية والملامح العامة. من أمثال فائق حسن, محمد علي شاكر, و آخرين. ولو بنسبة ما. هذا النمط الأسلوبي لم يخلو من ملامح نستولوجيا اغترابية, مرادفات لم تأتي من فراغ, هي نتاج حتمي(كما اعتقد) لتداعيات أزمنتنا العراقية الحالية الصعبة. لكن هل يعني أن كل هذا المنتج, لهذا العدد من الفنانين, هو بمستوى واحد من المهارة والقيمة الفنية, وهل يحمل بذرة خصوصيته الذاتية(الشخصية) كما مثلنا عن(انجيلو و دافنشي). وهل من الممكن ان يقاضي هؤلاء الفنانون بعضهم بعضا, بتهمة سرقة أعمالهم(موضوعا واسلوبا).
لا ننكر وجود تجارب فنية لبعض الفنانين تحمل خصوصيتها الاسلوبية. مظهرها المرئي, الذي يكدح الفنان من اجل الحفاظ على مكاسبه كحقل تعبيري استثماري لا ينازعه فيه احد. ان كانت التجربة فريدة كل الفرادة. لكن في عالمنا الحالي وفي مجال التشكيل قليلة هي الفرادة. وما لاحظته من خلال متابعتي لهذا الموضوع. فان ما ينتج عند بعض فنانينا بهاجس الفرادة المطلقة, لا يخلوا من وجود مرجعيات أخرى متقاربة, لبعض الفنانين الأوربيين. سواء الشرقيين أو الغربيين. وبالذات البلدان التي تتشابه فيها عناصر الأزمات المعاصرة, التي اعتقدها هي العامل المولد لهذه المقاربات في اشتغالات الفنانين. مما يجعلنا نقع في إشكالية مرجعية العمل الفني الشخصية. وهاجس ادعاء السرقة أو الانتحال. ما دامت السرقة خارج هذا السياق. فسرقة العمل تتم إما بالسطو على العمل وسرقته فعليا, أو تزوير توقيعه. أو استنساخه. لكن في مثل الأنماط المتقاربة, فاعتقد أن الأمر مختلف. ربما يرجع الدافع للقدرة التوليدية لبعض الأعمال التي تكون منطلقا لمن يستغلها, أو هي نفسها(الأعمال) تستحوذ عليه بسطوتها. ولا يهم ما يعتقده من وهم الخصوصية. فالأمر له آلياته الخفية المحيرة. لكنه موجود في كل زمان ومكان. ولا يقتصر علينا, نحن المتعثرين بإرباكاتنا.
أمام هذا الكم من الالتباس المرجعي, اعتقد, لا بد ان يكون هناك التباس قانوني, فيما يخص ادعاءات الانتحال الجزئي أو الكلي, بشكل خاص إن كان ضمن زمن اشتغالاتها, أو من زمن متقارب. لكن هل يعني أن كل من اشتغل على المهمل قلد(دوشامب). في التشكيل العراقي والعربي, هناك الكثير من الانتحالات وعلى مدار أزمنته. منها ما هو مجرد إعادة تدوير لتجارب الأساتذة, واحتمال الاستساغة في منطقتها, أو الإضافة عليها, أو تحويرها. ولا يستثني الفنانون المبتعثون أيضا, الذين درسوا الفن في أوربا. فكم منهم من استجاب لهذه الإغراءات. وأحيانا لحد تقليد الأعمال حرفيا. لكن العبرة, فيمن حاول بثبات الاستفادة من خبرات(أساليب) الفنانين الآخرين, ليشكل عناصر تجربته الفنية. اليس تاريخ الفن(وخاصة الرسم والنحت) عبارة عن انتحالات متتابعة, من قبل الفنانين السابقين والحاليين. فمن لم يتأثر بتجارب الآخرين. الآن, وبعيدا عن الأنماط العامة. وكمعاصرة منطلقة للمجهول, المجال مفتوح بشكل مذهل للإتيان بمعجزة فردية. لكن تبقى هذه المعجزة, وكما اعتقد, مرهونة أيضا بايدولوجيا الزمن الراهن, في زمن يدعي كذبا انتفاء الإيديولوجيات. يبقى أمر الانتحال في العمل الفني يحمل اشكاليته التي هي بحاجة إلى تعليلات أو تفسيرات عرفية ومواد قانونية جامعة لأغراضها. رغم إيماني بمشاعة العمل الفني, لنقل التواصلي التوليدي. قبل أن نقع في مطبات أخرى. وان حمت تشريعات بعض الدول الأعمال الفنية من إتلافها أو تشويهها من قبل المقتني القانوني. قوانين توفر الحماية أيضا للرسوم والمطبوعات والمنحوتات, والصور الفوتوغرافية ذات النسخة الواحدة, أو المحدودة الطبعات المرقمة والموقعة من قبل الفنان. أخيرا يبقى السؤال مطروحا عن قضية سرقة وحرق وتدمير مقتنيات مركز الفنون البغدادي شاخصا أبدا, علامة استفهام مؤرقة تبحث عن أجابتها.

.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح