قبل الجنس في الرواية... / حبيب مونسي


قبل الجنس في الرواية... / حبيب مونسي


 الثلاثاء 24 فيفري 2015
======
حينما قرأت رواية "عشيق السيدة شاترلي" "L’Amant de lady Chatterley" أول مرة مترجمة إلى الفرنسية، وقد كنت حينها طالبا في الثانوية، وكانت قراءة الروايات في الداخلية شبه محرمة، ولكننا كنا نتبادلها خلسة مع تواطئ الحراس الذين كانوا هم بدورهم يقرأون بنهم، وكانوا هم الذين يهربون البضاعة المحرمة إلى قاعات المطالعة مساء، حينما يغادر المدير والناظر المؤسسة. قلت قرأتها وقد كان الذي مر من قبلي على النص، قد أشر على فقرات لتسهل عليه العودة إليها من جديد.. فتحتم الأمر أن نقرأها مرتين وثلاث لأنها الفقرات التي كانت تقدم لوحات جنسية في أسلوب خيالي ساحر يتجاوز بك عتبة الفعل إلى ما يمكن أن يسفر عنه التخييل من صور لا يمكن لها أن تقع إلا في الخيال الذي يعرف كيف يعيد تشكيلها من جديد... كانت "كونستانس" "Constance" التي صارت بعد زواجها " lady Chatterley" تتحول بين يدي الروائي من امرأة يقتلها الروتين اليومي أمام زوج قتلت الحرب جزأه السفلي، وأعاقته إعاقة دائمة، وجعلته بين يدي زوجته ذاتا معذبة تغوص تدريجيا في الصمت والحزن الأبدي.. يحدث ذلك في فصل الشتاء الطويل والبرد القارص الذي يتخلل الذات قبل الأعضاء. ثم تأتي الخادمة وتتحرر كونستانس من عبء الزوج وخدماته وتخرج إلى الغابة التي تحيط بالمنزل مع الربيع وتفتُّح أوراقه وعبقه.. وتصاف في رحلاتها حارس الغابة وحطابها، لتبدأ رحلة إعادة اكتشاف الجسد، ومتعة الجنس من جديد، وأخيرا الحب.. ولكن بعد نزول صعب وارتقاء عسير.. ليخرج الحارس من وضعه الاجتماعي فيقترب من السيدة، وتنزل هي من مركزها لملاقاته في منتصف الطريق..
كانت اللوحات الجنسية كثيرة، ومتزاحمة في فترة اكتشاف الجسد، وعودة العلاقات الحميمية إلى الواجهة في فكر المرأة، وشعورها، وجسدها، وهي تقبل عليها لتمحو بها ساعات الحرمان التي توقفت فيها الحياة أمام الكرسي المتحرك للسيد "كليفورد" "Clifford ".
كانت وقفاتنا معها لاكتشاف المرأة بعيدا عن ذلك الاضطراب الاجتماعي، والنفسي، والواقع الاقتصادي الذي خلفته الحرب العالمية الأولى. غير أنني لما عدت فيما بعد إلى الدراسات التي كتبت عن الرواية، وعن الضجة التي أحدثتها في وسط "الطهوريين" "puritains" الإنجليز، الذين عارضوا نشرها بحجة المشاهد الجنسية الفاضحة.. قرأت في الردود تحليلات أحب أنى أختصرها هنا لندرك من خلالها كيف يمكن توظيف الجنس في الرواية، وإلى أي غاية يمكن أن نمضي به في السرد الروائي، وكيف يكون تلقيه في الأخير من طرف القارئ الناضج.
لم تكن قصة السيدة شاترلي ولا حياتها قصة مثيرة، فهناك عدد من الجنود والضباط عادوا إلى زوجاتهم مشلولين، مشوهين، وعاشت نساؤهم معهم ما عاشته "كوستانس" مع زوجها. فقد كانت تشواهات الحرب حاضرة في كل شيء في الإنسان والعمران والمعاش.. ولم يكن في الموضوع ما يثير الانتباه لولا وجود هذا الجانب الخفي الذي تكابده النساء في صمت من دون أن يعبأ به المجتمع. ولولا وجود تلك الجبرية البرجوازية التي جعلت الناس طبقات، وحرمت التواصل بينها إلا من خلال النفع والانتفاع.
وحينما مزج "لورنس" في روايته هذه المكونات بمقادير محددة في سرده، أمكن للجنس أن يكون هو الآخر مكونا قوي التأثير على القصة ليحول موضوعها من الحدث التافه اليومي الذي تكرر في مئات بل ألوف من الناس، إلى موضوع إنساني، جعل القراء لا يستبشعون أفعال كونستانس ولا خرجاتها عن المألوف -كرقصها عارية تحت المطر الغزير-ولا يستقذرون نهمها الجنسي، ولا ميلها إلى الابتذال.. بل يجدون في كل ذلك ردات فعل على واقع لم تصنعه كونستانس -ومن ورائها كل امرأة عاد زوجها إليها مشلولا- وإنما صنعه من أعلن الحرب لأجل مصالحه الخاصة، وأدارها بأموال وثروات البلاد، وذبح فيها خيرة الشباب من الجيل الذي يأمل في غد مشرق. باسم الوطنية، والملكية وغيرها من التراهات السياسية التي تدفع بالشباب إلى المذابح ليل نهار.
وقد عدت للرواية أقرأ منها فصولا، فلم أجد للمشاهد الجنسية من حضور كما كنت أجدها من قبل.. فقد توارت وراء وعي يتجاوزها إلى إدراك المأساوية التي عرفها مطلع القرن العشرين، وإلى البشاعة التي عرفتها حرب الخنادق والغازات السامة.. تلك الحرب التي لم يعرف الشباب سبب نشوبها، وسيقوا إليها في جو يشبه النزهات الربيعية قبل أن يطّلعوا على وجهها البشع الدميم..
واليوم حينما يسألني أحدهم عن الجنس في الرواية أعود دائما إلى "كونستانس" وأسألها هل كانت تمارس الجنس فعلا؟ أم أن فعلها ذاك -في كل أحواله ومراياه- إنما كان لإعادة اكتشاف ذاتها التي فضلت في الأخير أن تتخلى عن مركزها البورجوازي، وأن تختار حطابا لتهاجر معه إلى العالم الجديد.
هنا إشارتان رمزيتان: الأولى في الحطاب الذي يعيش معزولا عن الناس في كوخه الخشبي وكأنه يمثل الطبيعة والصفاء بعيد عن عالم "الإيتيكيت" والآداب الاصطناعية التي يتبادلها الموسرون في الخلوات والحفلات. والعالم الجديد الذي بدأ يتأسس على المبادرة الفردية والجرأة والمغامرة. رافضا أن يكون نسخة من عالم قديم، لم يجد سوى الحرب ليداوي بها حمقه الطبقي الضارب في أعماق التاريخ.
يجب على الروائي اليوم، حينما يقبل على مشهد جنسي في سرده، أن يسأل نفسه عن المقدار الضروري الذي يمكن أن يسمح به ليخدم الغرض الكامن وراء مراميه التي تتأسس عليها روايته. فذلك السؤال كفيل بأن يحدد له المقدار ويدله على الكيفية التي يجب أن يعالج بها الموقف الجنسي.. فإذا شعر أن لا حاجة إلى ذلك تجاوزه إلى مشهد آخر.. وإلا فآفة السرد الكبرى أن تُحشا الفقرات بالمشاهد كما يُحشا الوساد بالصوف.
http://www.elhayat.net/article16596.html

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح