عنوان المداخلة : نظرية الفن للفن وأزمة التلقي في الفن التشكيلي / قجال نادية


عنوان المداخلة : نظرية الفن للفن وأزمة التلقي في الفن التشكيلي / قجال نادية

       لا شك أن  بلدان البحر الأبيض المتوسط تعرضت كسائر مناطق العالم  للزخم الفكري والثقافي الذي تفرضه العولمة  وأنّ  شعوبها أثرت وتأثرت ثقافيا في علاقة انعكاسية تسمى المثاقفة.
       والحقيقة أن المثاقفة أقدم بكثير من أن تربط بالعولمة  والمتتبع للتاريخ يلاحظ كيف انتقلت الفنون والصنائع من الشرق إلى الغرب في الحضارات القديمة ،وكيف استطاع المسلمون توحيد فنون البلدان المفتوحة من الهند وآسيا الوسطى شرقا  إلى الأندلس و المغرب الأقصى غربا  ، و جمع شتاتها وتأليف وحدة متمايزة منها على الرغم من تباين أصولها اتخذت اسم الفن الإسلامي (1) ثم كيف انتشر الفن الغربي في شمال إفريقيا  من خلال التوسعات الأوروبية.
       ثم كيف انتقلت نظرية الفن للفن أو ما يعرف بالبرناسية التي تعد أم مذاهب الحداثة وما بعد الحداثة   من فرنسا إلى سائر الدول الأوروبية ،ومن ثم إلى الجزائر ودول البحر الأبيض المتوسط وغيرها  وكيف أثرت محليا على آلية التلقي.
       و حين نتأمّل نظرية الفن للفن  يتجلّى لنا أنها المصدر الأساسي  لأزمة التلقي في الفن  الحديث بشكل عام  و المتسبب الرئيسي في اتساع الهوة بين الرسام والجمهور في العالم عموما والجزائر تحديدا.
مفهوم نظرية الفن للفن
       تعد نظرية الفن للفن من أهم النظريات  المضادّة لنظرية الانعكاس ذلك أنّها تقوم أساسا على فكرة وجوب بتر الصلة بين الفن والمجتمع وبزغت  أفكارها إلى الوجود في  مطلع القرن التاسع عشر كنوع من الهروب من الواقع  وتبعاته  حيث أغفل الفنانون مطالب عصرهم وأهملوا الأهداف الاجتماعية والأخلاقية وانشغلوا بخلق فن هو صورة الترف في ذاته (2)
      وتسمى هذه النظرية أيضا بالبرناسية نسبة إلى جبل البرناس اليوناني حيث تقيم آلهة الشعر حسب اعتقاد اليونانيين ،  و  تحثّ على تخليص الفن من النفعية والغائية وتحريره من أي ارتباط فكري أو فلسفي أو ديني أو أخلاقي ،بمعنى أنها نظرية قائمة على فلسفة لا دينية تنبذ القديم  وتناقض النظرية الانعكاسية المؤيدة لوظيفة الفن الاجتماعية التنويرية والإصلاحية . و تناقض أيضا المذهب الرومانسي الذي يعتبر الفن  وسيلة للتعبير عن الذات ، مصرّة  أن الفن يجب أن يكون هدفا في حد ذاته  يستأثر على أي هدف آخر  ، أي أن يكون الفن مطلوبا لذاته .
    فالرسام في البرناسية يرسم لأجل الرسم ،والمسرحي يعرض للعرض ،والكاتب يكتب ليكتب ،دون الاكتراث للمضمون أو الموضوع .
    إذن أنصار نظرية الفن للفن يرون أن الأدب والفن  ضرب من الترفيه  والتسلية والمتعة الجمالية وليس ثمة داع للتقيد بوظيفة التهذيب والتربية والتعليم كما يفعل دعاة النظرية الانعكاسية لأنه نشاط مطلوب لذاته تحقيقا للشعور بالمتعة والجمال .
     ويعد كانط 1804 المنظر المؤسس لهذه النظرية  حيث دافع عن تحرر الفن مما قد يتلبّس به من أفكار وفلسفات أو أخلاق أو قيم اجتماعية أخرى وتجدر الإشارة  أنه  اعتنق البوذية  تاركا المسيحية.
    ونذكر من أنصارها الفرنسي شارل بودلير 1821-1867 المعروف بتحمسه لفكرة الفوضى الجنسية والمطالبة بها ، و تيوفيل جوتييه 1811-1872 ومالا راميه 1842-1898 الذي استمات في الدفاع عن النظرية و هو من أعمدة المذهب الرمزي.
    و كانت فرنسا المهد الحاضن لهذه النظرية والمرتع الخصيب لرواج أفكارها  بعد  ثورة  الفرنسيين على الكنيسة وانتشار العلمانية،  ثم انتقلت النظرية إلى الدول الأوروبية الأخرى . ثم إلى دول شمال  إفريقيا بما في ذلك الجزائر
ويمكننا تلخيص مبادئ  نظرية الفن للفن فيما يلي:
1-لا يجب على العمل الفني أن يكون نفعيا  ، فالفنان ليس عالما ولا فيلسوفا ولا أخلاقيا، وكل ما يطلب منه هو تحقيق التكافؤ بين ما ينتجه وما يشعر به(3) أي عدم تقيد الفن بالتعليم والتوجيه.
2-الاهتمام بالشكل على حساب المضمون أو الموضوع ، بمعنى أنّ المنتج الفني أو الأدبي يقيّم  وفق معايير تراعي الشكل وجمالياته ولا تعبأ بالمضمون (4)
     وبرر أنصار نظرية  الفن للفن الاهتمام بالشكل على حساب المضمون، وتجريد الفن من النفعية والوظيفة الاجتماعية ، بزعمهم أن إثارة الحس الجمالي و إيقاظ الشعور بالمتعة في الجمهور  يعدّ وظيفة اجتماعية ، لأنّ هذه الإثارة تجعل الناس يطلبون حياة أفضل وأسمى، ويعد العقاد أحد المتحمسين لهذا الرأي.
    وقد لقيت هذه النظرية قدحا و نقدا لاذعا لانحرافها عن العقل والوعي ،  وقاد سارتر حملته الساخرة ضدّها ، و أكّد أنّ أتباع نظرية الفن للفن يضعون أنفسهم على هامش المجتمع ، فهم مجرد طلاّب متعة يقدّمون أعمالا  بلا جذور لا تخدم شيئا البتة ،ونعتهم بنكرات القرن الأخير  الذين اتخذوا من هذه النظرية ذريعة لأنّهم رفضوا انتهاج التجديد والبحث لإبداع عمل  قيم (5)

البرناسية تقيم حجر الأساس في أزمة تلقي  الفنون التشكيلية
         و لمّا كثر نقاد البرناسية انطوت على نفسها وضيق عليها الخناق لكنّها تركت بذور  ديمومتها  لتتوارث  مذاهب الحداثة وما بعدها أفكارها ، لذلك تعتبر أمّا للفن الحديث .
   وهكّذا وضعت هذه النظرية اللبنات الأولى لأزمة التلقي التي تفاقمت بمرور الوقت  واشتدّت في مذاهب الحداثة وما بعدها ،وهمّش الجمهور بقطع سبل التواصل والإصرار على الغموض وإهمال المضمون .
     وإذا عدنا إلى إشكالية الملتقى نلاحظ أن استيراد وتبني أفكار نظرية الفن للفن أو الفن للمتعة   يجرد الرسم من دوره التوعوي والتنويري لصد الغزو الثقافي والفكري الذي تفرضه العولمة ، ولا يعقل أن ينحصر تصدي الفن الجزائري للعولمة في حدود إثبات الذات والتعريف بها كما  تحاول جماعة الأوشام بل لا بد من التفكير في الموضوعات التي تعالج  القضايا الراهنة وتدون التاريخ وتؤثر في الآخر وتدافع وتتصدى وتدحض وتقنع وتقيم الحجة وتبتكر وتجذب في الوقت نفسه دون إغفال البعد الجمالي كل هذا بلغة تشكيلية بليغة يفهمها المتلقي دون عناء ، و تخاطب الجمهور على اختلاف مستوياته الثقافية ولا تتوجه إلى خواص الخواص.
   فالصورة سلاح لا يستهان به إن لم نحسن استغلاله استغله غيرنا ضدّنا في عالم يغلي حولنا .
     الانطباعية بوابة الفنون الحديثة
  غرست البرناسية إذن بذورها في مذاهب الحداثة وما بعد الحداثة التي انتشرت في كامل أنحاء المعمورة  وتعد الانطباعية البوابة التي تفرعت منها كل تلك المذاهب حيث أحدثت  نزعتها نقطة التحول الأول من الفنون الكلاسيكية إلى الفنون الحديثة(6)و بزغت هذه المدرسة إلى الوجود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا ، حيث اهتم أصحابها بدراسة  التأثيرات الوقتية لضوء الشمس في المناظر الخارجية  قصد تمثيل بيئة في عجلة من أمرها. وانصبت أبحاثهم على علم البصريات ودراسة الطيف الشمسي ، وتفكيك الدرجات اللونية و تطبيق قوانين التضاد للعالم شافرول. فكانت أعمالهم مجرد ممارسات بصرية  تسرف في الانشغال بالألوان القزحية على حساب الألوان التعبيرية، وتغفل  البعد التاريخي والديني والثقافي والدرامي ،و تهمل الإنسان وأحاسيسه وتهتم بالشكل على حساب المضمون.
      ووجد الكثير من الانطباعيين الفرنسيين في الجزائر غايتهم المنشودة نظرا لأجوائها المشمسة  والإضاءة المبهرة لمناظرها الطبيعية المتنوعة والساحرة . فقدموا إليها بحثا عن موضوعات جديدة للوحاتهم ،وساهموا في انتشار مبادئ مذهبهم في البلاد، كما انتشر الفن الغربي بصورة عامة فيها من خلال مدارس الفنون الجميلة التي أنشأها الاستعمار الفرنسي آنذاك، والتي تتلمذ فيها قلة من أبناء الجزائر ممّن أسعفهم الحظ في الالتحاق بها .
    ووقع غلاة النزعة الانطباعية  في المبالغة في  تسجيل الانطباعات الهاربة وحركة الظواهر بدل المظهر الثابت الحقيقي للأشياء ولم تعد الأشكال تنقل لديهم كما يفترض بها أن تكون بل كما تتراءى لهم وفق تأثير الحركة المتغيرة لضوء الشمس فأنتجت هذه الرؤية الجديدة طريقة جديدة في الرسم حيث ترخصوا في اختراق القواعد الأكاديمية وهم يحاولون أن يكمشوا انطباعات هاربة في لحظات هاربة  وبالتالي أصبحوا لا يبالون بصلابة الخطوط وفقدت اللوحة الانطباعية بناءها وضاع موضوعها وأغفل البعد الفكري والثقافي والديني والتاريخي والعاطفي فيها.
        وهكذا أوصدت  هذه الرؤية الجديدة كل باب للتواصل مع المتلقي ، و لم يعد الرسم رسالة بصرية تحمل خطابا تشكيليا مفهوما بل ممارسة ذاتية متكتمة وخرساء لا يفهمها إلا صاحبها. ذلك أن غياب الخطوط الصلبة في الرسم يشبه من حيث الوخامة والسلبية  تشوه  الخط في النصوص المكتوبة بحيث لا يمكن للقارئ تمييز الحروف وتتعذر عليه قراءة الكلمات فيحجب عنه الموضوع والمضمون.   إذن كلما كانت خطوط الرسم صلبة وواضحة كلما اتّضح الشكل والبناء ،ومن ثمة تتضح الصورة ومضمونها  وبالتالي فإن الإصرار على تبني هذه الطريقة المستحدثة في الرسم في بلادنا اليوم هي إلغاء صريح للمتلقي الذي يبقى بين خيارين إما الانصراف عن العمل الفني أو إجهاد المخيلة في محاولة فهم الانطباع الذي تولد عند الفنان لحظة تثبيته للتأثيرات الوقتية الهاربة واقتفاء أثر الضربات المختلجة للفرشاة لعلها تفصح عن شيء يمكن إدراكه.
   وماذا يمكن أن ندرك من نص دون فحوى غير شكل الكلمات الغريبة ؟.
        إذن وضع غلاة النزعة الانطباعية اللبنات الأولى لأزمة التلقي التي تفاقمت فيما بعد في الأساليب المستحدثة المتسابقة نحو خلق التميز باسم الإبداع ضاربين ببلاغة اللغة التشكيلية عرض الحائط بحجة أنها لغة تخطاها العصر ولا تساير الموضة وتخلو من كل ابتكار. و تخطى الفن الحديث مرحلة محاكاة الواقع ولم تعد  وظيفته التعبير عن أي غرض ديني أو أخلاقي (7) وأهملت القواعد الأكاديمية من قياسات ونسب وتشريح ومنظور وما إلى ذلك مما  يؤسس  لبلاغة الوصف في اللغة التشكيلية وتركت للنسيان  وهوجم المتمسكون بها من قبل النقاد و أهل الاختصاص واتهموا بالتخلف عن مواكبة العصر.
    ولا شكّ أنّ من يتعمّد مخاطبة المتلقي بلغة تشكيلية مبهمة لا يكترث البتة بوصول رسالته إلى الجمهور واستيعابها، هذا إن كانت ثمة رسالة أصلا. ومن الواضح أنّه يهتم بالشكل على حساب المضمون  ونفهم من هذا أنّ الهدف عنده لا يرقى إلى التعبير عن أفكار جديدة أو موضوعات مثيرة إنّما ينحصر في حدود البحث عن أحدث  وأنجع طرق سرقة الأضواء وإبهار الجمهور. فنراه يدعو الناس إلى معارضه ويأخذ من وقتهم الكثير لكي يرهق عقولهم وهم يحاولون  إزالة الغموض وفك الرموز التي لا يعرف حل شيفرتها غير صاحبها الرسام تحت شعار " أريد أن أشرك المتلقي في تجربتي البصرية لا أن أملي عليه فكرة ما ،  ويمكنه أن يقرأ فحوى اللوحة كما يشاء".
      و بما أن ّ الرمز  كما هو معروف لا يكون رمزا إلاّ ّذا كان له معنى متداولا ومتفقا عليه  بين الجماعة أو المجتمع(8) فإن الأشكال التي لا يعرف معانيها سوى صاحبها الرسام لا يمكن أن نسميها رموزا أو إشارات فهي أشبه بالطلاسم التي يستعملها الساحر لإثارة الدهشة وجذب الانتباه.
      والغريب في الأمر أن رواد الأساليب المستحدثة في الرسم أصروا إصرارا على فرض مناهجهم الفنية وتصدّوا لكل أنواع النقد الرافض لها حتى تمكنوا من فرضها واعتاد المحيط الفني عليها وباتت مألوفة وعامة  بعدما كانت شاذة وصارت الأساليب الأكاديمية القائمة على بلاغة الوصف ووضوح اللغة التشكيلية  مجلبة للنقد .
        واتفق الجميع على فهم هذه الطلاسم و صار كل واحد  يستحي  أن  يقر بعجزه عن  فهمها خشية الاستخفاف بمستواه الثقافي.  
     و هكذا انطلق الفن في رحلة طويلة بحثا عن التجديد والابتكار فضاع في زخم الموضات العابرة وبلغ  الغلاة في طلب الإبهار والإعجاب مبلغا جعلهم يرسمون بخامات قذرة و نفايات في مذهب سموه الدادائية واقتحمت الحيوانات باب الفن وصار بإمكانها الرسم كذلك  .
      وأشركت بعض الحيوانات المحظوظة المتلقي في تجربتها الفنية  ولا عجب في ذلك مادامت القاعدة المسلم بها  تقول:" إليك الألوان والأشكال وأنت حر افهم ما شئت  وفسر وفق ما تمليه أحاسيسك تجاه ما تراه ولا تسأل الرسام فالرسام تنتهي مهمته حين يضع الفرشاة".
       إن الخطاب التشكيلي  يفقد معناه ويصبح عقيما  إذا طغى عليه الإبهام والتعقيد ولا شك أن من  يفعل هذا يهتم بالشكل أكثر من الجوهر ولو أنه رتب المضمون في المرتبة الأولى من حيث الأولوية لانتهج  أكثر الأساليب وضوحا وبلاغة  .
      يقول الرسام إيتيان دينيه:" ألا نرى أدباء يعبرون عن أفكار جد جديدة بكلمات جد بسيطة وجد قديمة  بينما يستعمل آخرون ألفاظا مستحدثة فلا يترجمون سوى أفكارا تافهة ولاغية؟" ويفسر ظاهرة اللجوء إلى الغموض بمحاولة جلب الاهتمام وحذو حذو  ألسيبياد حين بتر ذيل كلبه.
 اجترار الأفكار القديمة في أشهر المذاهب الحديثة
      إذا أخذنا على سبيل المثال المدرسة التكعيبية نجد أنّ فكرتها الأساسية استلهمت  من تمثال إفريقي  نحت بعفوية بطريقة جعلته يتجزأ إلى أشكال هندسية ، فارتأى روادها الاعتماد على قواعد هندسية وخلق جمالية جديدة تقوم أساسا على رؤية معمارية للأجسام  وتجسد البعد الرابع بإظهار الأشكال من عدة جوانب في آن واحد، وعبّد الرسام بيكاسو الطريق لهذا المذهب من خلال دراساته التحضيرية لرسم فتيات أفينيون في شتاء 1906-1907 . وهكذا راحوا يجزئون الأجسام  إلى أشكال مسطحة لتجمع في أشكال مكعبات تتراءى من عدة زوايا بأسلوب بدائي يذكر في عفويته وبساطته برسوم الأطفال وسميت هذه المرحلة بالتحليلية ، ثم تلتها المرحلة التركيبية التي قامت باسترجاع خصائص الشكل الذي تحطم في التحليلية وتبنت أسلوب التلصيق لإثراء اللوحة.
     ولم يتقبل النقاد  التكعيبية في البداية،  ونورد على سبيل المثال ما سجله الناقد فوسكيل بشأنها حيث قال:" إنها مكعبات صغيرة وغرائب مكعبة".
     وراح ألبارت جلايزيز يدافع عن التكعيبية فوق الطبيعية ذات البعدين في كتابه " التكعيبية ووسائل فهمها " متوجها بالنقد في الوقت عينه إلى الأسلوب الأكاديمي الذي يراعي المنظور زاعما أنه لا يحق للرسام الأكاديمي  أن يخدع الجمهور ويوهمه بصورة تطابق الواقع  ، وأن تمثيل العمق أي البعد الثالث في لوحة مسطحة هو جرم في حق الفن وأن الفنان الحقيقي هو الذي ينشغل بدراسة الخطوط والأشكال التي ليس لها أي علاقة مع الطبيعة  بحيث يمكن أن تشاهد من مختلف الاتجاهات.
     وقد تولى الرسام إيتيان دينيه الرد عليه في كتابه آفات الرسم ووسائل محاربتها  موضحا أن حاجة عين الإنسان وروحه إلى الخيال شبيهة بحاجة رئتيه إلى الهواء . وأنه إذا سلّمنا بمنطق ألبارت جلايزيز يكون لنا الحق في اتهامه بارتكاب جرم حقيقي  ضد نظريته الشخصية بما أنّه هو أيضا يخدع الجمهور ويستعمل الألوان في تنكير  قماشة رسم جميلة(9)
    وقال أيضا:" لو أنه التفت إلى الشرق مصدر النور ، لوجد أن اكتشافه المزعوم  قديم جدا  يعود تاريخه  إلى عهد ازدهار الحضارة الإسلامية  حيث  أنجز الفنانون  المسلمون  تحفا فنية لا يمكن تقليدها   من سجاد وخزف وفسيفساء  و... وفق المبادئ التي ذكرها، فهي  مزينة بالخطوط والألوان فقط وذات بعدين اثنين ،  ولا تتضمن  أي عنصر تزييني من الطبيعة ، ويمكن مشاهدتها من كل الجوانب  ، غير أنّ المسلمين لا يقومون البتة بتنكير المادة الجميلة بألوان رديئة ، ولا يلجؤون إلى أي نوع من
أنواع الخداع والغش ، فالمواد حقيقية وثمينة : كالمينا ، وأم اللؤلؤ ،،، والصوف ، والحرير والذهب والفضة. على أنّ الخطوط والألوان يفرضها ما تستلزمه هذه المواد وهي مستلهمة من الكمال المطلق للشعر والدين. وهذا المثال عن الشرق يأخذنا بعيدا عن النظريات  المتناقضة والموضات العابرة لكل تلك العصب الصغيرة  المعارضة لبعضها والتي تبعث القلق في النفس (10)
     إذن ما قدّمه دينيه من نقد للتكعيبية  يكفي للاقتناع أنها  تقوم على أفكار قديمة مجترة قد يجدها المتلقي في التحف القديمة بخامات أرقى ومعان أسمى ترتكز لغتها التشكيلية على " أساس صوفي حركي على عكس بعض اتجاهات التجريد الحديث التي تقوم على أسس مكانية ساكنة وجامدة" (11)
التجريدية تعبير حر يحير المتلقي:
    وفي المذهب التجريدي بصنفيه الهندسي والتعبيري  يطغى الغموض على اللوحات الفنية لتجردها من أي صورة مألوفة وانسلاخها من الواقع الموضوعي ، وتحت شعار" التحرر من قيود الطبيعة والتعبير الحر عن الفكرة المجردة" ينصب الاهتمام على صياغة الواقع برؤية جديدة وفق إحساس الرسام باللون والحركة والخيال .
   ومن رواد  التجريدية الهندسية العالميين بيات مندريان الذي تحمّس للشكل الهندسي والألوان الصافية في تكويناته الفنية ويعد من بين الرسامين الأكثر تحمسا للرسم غير التشبيهي ، وكان في البداية متأثرا  بمدرسة لاهاي لكن بعد احتكاكه بالرسامين التكعيبيين في 1910 أصبحت لوحاته  تميل أكثر  إلى التجريد ،وابتداء من سنة 1917 باتت مجرد خطوط أفقية وعمودية ولم  يعد يستعمل في تلوينها سوى الألوان الأساسية.(12) وبدا مقتنعا جدا بفلسفة ماثيو شوينمايكر الذي شرح في كتابه "فلسفة الخيال الجديد" أن  العالم     يتراءى له  قائما على  تعارض  الأفقي مع العمودي.(13)
     لكن ماذا عن المتلقي الذي بات مجبرا على الاقتناع بهذه الفلسفة لفهم اللوحة ، أو بالأحرى فهم رؤية الرسام الذاتية للعالم المحيط به؟ ألم يعد الجمهور في موقف المهمش الذي يحشر نفسه في خصوصيات لا تعنيه؟ 
      ولا جرم أنه حتى وإن حاول  الاجتهاد في الفهم تقدم خطوة أخرى نحو مزيد من الغموض ،  بدليل ما ورد في شرح فان دويسبورج  الذي رأى  أن الخطوط في لوحات موندريان  تكاد تكون أعمالا فنية قائمة بذاتها  لأنها تحمل معان خاصة بها (14) .
   إن هذا النوع من التعبير يوصد أبواب التواصل مع الجمهور وتتبلور هذه القطيعة في العزوف عن اقتناء اللوحات التجريدية ، لهذا عانى موندريان من ركود مبيعاته واستعان ببعض الأصدقاء لتجاوز أزماته المادية.(15)
   وأماّ  كاندنسكي فيرى أن  اللطخة الدائرية بإمكانها التعبير أكثر من تعابير الوجه  فانتهج التجريدية التعبيرية  التي تقوم على سلسلة متداخلة من اللطخات اللونية العشوائية أو الخطوط التعبيرية  و تهدف إلى الارتقاء إلى مستوى الموسيقى مهملة الأشكال الطبيعية ،  وجدّ  في البحث عن القيم المجردة التي أعتبرها أكثر قدرة على التعبير عن الحقائق النفسية والانفعالية.
      إذن ما دامت التجريدية بصنفيها تعبير حر قائم على إحساس الرسام باللون والحركة فهي ذاتية جدا تنطوي على خبايا نفسية وانفعالية لا يمكن للمتلقي قراءتها ، وحتى إن حاول تفسير الألوان والأشكال فإنه يقوم بتفسيرها انطلاقا من شعوره هو تجاه ما يراه وليس شعور الرسام  ولا يمكن أن تصل رسالة الرسام إلى المتلقي إلا إذا كان هذا الأخير أخصائيا في الطب النفسي قادرا على ترجمة اختلاجات الخطوط وتفسير الأشكال والألوان.
تجليات أفكار البرناسية في الساحة الفنية الجزائرية:
    لا جرم أنّ  أفكار البرناسية استطاعت أن تنفذ إلى العديد من الفنانين الجزائريين بنفوذ الثقافة الغربية في البلاد ،لاسيما عند خريجي المدرسة الوطنية  للفنون الجميلة الذين انتهجوا التجريد وشبه التجريد بينما تمسك المتخرجون من جمعية الفنون الجميلة بأسلوب يحاكي الواقع  والسبب في هذا الاختلاف يعود إلى الأساليب التكوينية المتبعة في كلتا المدرستين.(16)
    ومن بين الرسامين التجريديين في الجزائر نذكر الرسام محمد خدة والرسام ولهاصي، بينما يندرج أسلوب مارتيناز في حدود شبه التجريد وقد تأثر به الرسام قاصر رمضان  ومحمد بن بغداد  وغيرهم  ممن  وظفوا الزخارف والرموز الشعبية في تكوين لوحاتهم.(17)
   ومن الرسامين التكعيبيين نذكر كلا من بشير يلس وشكري مصلي، وأمحمد  إيسياخم ، وإسماعيل صمصوم وقد اتخذ كل واحد طريقته الخاصة في حدود هذه المدرسة(18)
      ومهما اختلفت مدارس هؤلاء الفنانين فإنّهم يشتركون في صفة تكتم الخطاب التشكيلي وغموضه وحرية التعبير التي لا تقيم وزنا لأسس وقواعد البلاغة في اللغة التشكيلية  تحقيقا للشعور الشخصي بالمتعة عند مداعبة الألوان ومزجها ووضعها وفق  ما تمليه الرغبة والنفسية والمزاج  بحثا عن الجمال من منظور ذاتي .
   و حين يطغى الإبهام ويستأثر الشكل على المضمون وتنسلخ الأشكال من أي صورة مألوفة دالة يندرج العمل في حدود البرناسية التي تنادي بالرسم لأجل الرسم .
  على أن الإبهام ليس المؤشر الوحيد لتبني أفكار نظرية الفن للفن اللادينية بل نراها تتبلور في بعض الأعمال الفنية التي تبالغ في تصوير العري  قصد الإثارة  مع خلو المشهد من أي فكرة أو موضوع مفيد دون الاكتراث لأي وازع ديني وكأن الفن تأشيرة تبيح كل المحظورات .
   والزائر اليوم للمعارض الفنية التي تقيمها مدارس الفنون الجميلة ، ودور الثقافة وصالات العرض يلاحظ تفشي أفكار البرناسية عند العديد من الرسامين الذين اقتنعوا بفكرة التحرر من القيود الأكاديمية في الرسم والذين  يتسابقون نحو الغموض طلبا للإبهار وجذب الاهتمام ، فيرى مجسمات مصنوعة من النفايات لا تعني شيئا ،ويصاب بالإحباط لإقحام بعض العناصر الدخيلة على الألوان  والتي تشوش الرؤية مثل الخرز البلاستيكي اللامع ، والإسراف في اللجوء إلى إلصاق قصاصات ورق الجرائد والمجلات على قماشة الرسم اختزالا للجهد وكسبا للوقت ، دون التمعن في فحوى تلك القصاصات ودون الاكتراث لتأثيرها على الرسالة البصرية .  ويطغى الغموض على اللوحات بانتهاج التجريد وشبه التجريد مع المزج بين المدارس في أساليب غريبة عجيبة يستحيل تصنيفها.  ويحضر العري  بتكوين مشوه ليجاهر باختراق التقاليد، وتتبعثر الرموز الشعبية بعشوائية وعبث  في محاولات بائسة لإثبات الهوية  ، ويصاب الزائر بخيبة أمل تامة وهو يحاول  فهم مدلول ما لا دال له ، ويفسر الماء بالماء بعد جهد وعناء ويروح بعض المشاهدين ممن يتحلون بروح النكتة عن النفس  بتعليق هزلي ساخر على الأعمال .  وهناك من يدعي فهم الخطاب التشكيلي لإثبات تمتعه بالذوق الفني ودرايته بمعايير الجمال ومستواه الثقافي .
     لكن عموما لا يمكن إنكار الهوة التي لا تنفك تتسع  بين الفنان والجمهور وهذا ليس في الفن التشكيلي فقط بل نراها  أيضا في مسرح العبث الذي يستمد فلسفته من النظرية نفسها ،حيث لا بداية ولا حبكة ولا نهاية  لنص بلا معنى، فهو عرض بلا غاية  يتحرك ويتكلم  الممثلون فيه   بعشوائية أو بعبث .
      ويشرح الأستاذ بوشراكي عبد الحليم ،  أن المسرح الجزائري لا يمكن أن يصل إلى العالمية  لاقتصاره على العبث واللامعقول وافتقاره لقضايا جوهرية يدافع عنها . وقد صرّح أن ''العديد من الكتاب والمخرجين المسرحيين يلجؤون إلى معالجات وعروض لا يفهمها الناس، ولا يطرحون قضايا مرتبطة بواقع الناس. وعندما تستفسرهم عن الأمر يقولون إن مسرحهم من نوع اللامعقول الذي لا يفهمه إلا القلة والصفوة. ومع ذلك يقدمونه للجمهور الذي لا يفهمهم"(19). كما تتجلى البرناسية أيضا في الشعر الحر الذي لا يهتم بالمضمون بل بجمال الكلمات . 
 
      
    وفي الختام يمكننا القول أن الفن ككل ينبغي أن يكون وسيلة للتعبير والتواصل مع الناس جميعا  على اختلاف مستوياتهم الثقافية  ورسالة مفهومة تلغي الحواجز بين البشر ، يدرك المتلقي من خلالها أنه معني بالخطاب و يشعر بتقدير الفنان له واهتمامه برأيه وتفاعله مع العمل الفني،  لا أن يكون فنا لأجل الفن أو تعبيرا انطوائيا متكتما ذاتيا متقوقعا في بوتقة الأنا ، أو وسيلة لسرقة الأضواء وجلب الاهتمام بخرق العادة والركض وراء الغريب والمبهر وكل ما يثير الذهول والحيرة عند المتلقي، في زمن يستوجب الاهتمام بالصورة واستغلالها  في إثبات الذات والتصدي للغزو الثقافي والتوعية والتنوير والتدوين وما إلى ذلك.
      على أن التحقير من قيمة الأعمال الفنية القائمة على احترام القواعد الأكاديمية يدعو إلى التساؤل عن عناء تدريس علم المنظور والتشريح والنسب والقياسات والتظليل وتجسيد المادة وما إلى ذلك من مقومات بلاغة الوصف في مدارس وكليات الفنون الجميلة بما أن  الطالب يصطدم  بعد التخرج برفض عالم الفن وما يتضمنه من أخصائيين ونقاد وأساتذة وخبراء للأسلوب المحاكي للواقع  ؟

الهوامش
1 -زكي محمد حسن"فنون الإسلام" دار الرائد العربي بيروت 1981ص5-6
2-ابراهيم حجاج : نظرية الفن للفن ، الحوار المتمدن العدد 3197 ، 26 نوفمبر 2010
3-وليد قصاب في الأدب الإسلامي ص 87
4-وليد قصاب: مقالات في الأدب والنقد، دار البشائر، دمشق، ط 1، 1426هـ ص 16، 17.
5-ابراهيم حجاج :  " الرجع السابق"
6-طارق مراد مدارس فنون الرسم في العالم ، دار الراتب الجامعية بيروت ص15  
7-عفيف بهنسي اتجاهات الفنون التشكيلية  مطبعة وزارة الثقافة والارشاد القومي ب ت ص9
8-أكرم قانصو " التصوير الشعبي العربي" المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت نوفمبر 1995م ص99
9-Etienne Dinet – les fléaux de la peinture  moyens de les combattre 
édition Henri Laurens Paris 1926 p77
10-ibid p78
11-عفيف بهنسي " الفن الحديث في البلاد العربية" دار الجنوب للنشر اليونيسكو تونس 1979م ص73
12-Dolf Hulst .Mondrian ecole de la Haye –de Stijl Bookking international .Paris 1994 p1
13- ibid p 146-148
14-ibid p 148-149
15- ibid p149
16-  ينظر :إبراهيم مردوخ"الحركة التشكيلية المعاصرة بالجزائر" المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر1988 ص 45
17- م ن ص 47
18- م ن ص 46
19- بوشراكي عبد الحليم   باحث في الفنون المسرحية في محاضرة ألقاها بدار الثقافة أبي راس الناصري بدعوة من المسرح الجهوي لمعسكر ينظر:  
"المسرح الجزائري اختصر في العبث واللامعقول" ل م هواري معسكر،الخبر الخميس 18 نوفمبر 2010














تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح