ماكتبة الفنان الجليل حسين السكافي في تجربة صديقه آرام / حسين السكافي لندن
من أعمال الفنان خالد الرز
ماكتبة الفنان الجليل حسين السكافي في تجربة صديقه آرام .
الفنان آرام خالد الرز
الفنان آرام خالد الرز
ان الكتابة عن الأعمال الفنية لفنان كبير وقامة إبداعية فائقة، تُعتبر مغامرة قد أكون فيها ممن يبخسون الناس اشياءهم. لذا اعتذر سلفاً عن كل هفوة وقصور في الوصول الى ما اصبو اليه، والبصر وسيلتي والّامرئي هو ما أريد أن أراه. صعبة هي المهمة وكم احتاج من الحضور الذي قد يسابقه التلاشي. وكلما إتسعت الرؤية ضاقت العبارة كما يقول الصوفي (النفّري( (كل الأشياء تصبح أوضح حين تُفسر غير ان هذا العشق يكون أوضح حين لا تكون له تفسيرات ) مولانا جلال الدين الرومي . وهذا ما وجدت نفسي فيه، فأنا أقدّم لأعمال فنان كبير يتعامل بعشق عميق مع أعماله. وبين فرشاته وسطح اللوحة مسافة غير مأهولة بالضروري و الكثيف، وإنما مرتهنة لامتدادات عصية على المباشرة، فيها من الطاقة ما يكفي لقدح شرارة الإنفلات الى عناق الضوء تحت أشعة اللون في عالم من الإشراق بعيداً عن صخب السطح وبهرجته. فلوحاته مرآة تجلت فيها السماء وصبوات روحه وهي تشق طريقها الى السطوع والخفاء، الى البعيد القريب ، فتأخذها معارج اللون نحو المشكاة، فتولد خطوط أسكرتها خمرة الوجد لتشتعل بناره حتى تغفو على عالم الأسرار ، وتُبقى على المعنى مفعمة بالغواية والتمنع ، ترتل لفحة من مولانا الرومي ( ليس في العالم خيال دون حقيقة ) أعمال كتبت الروح فيها رحلة حلمية في لحظات صفاء تدفع بكل النهايات الى الاّمنتهي ... ان الشفافية في الوان الفنان آرام خالد تمنح عين الناظر فرصة الغوص في أعماقها لمعرفة الكثير من المعنى الذي تحمله ضمن خطابها البصري المتميز والذي يُظهر قدرة الفنان في خلق هذا التعايش العميق بين الألوان والخطوط والنقاط والتي تحقق ذاتها من خلال العلاقة بالفضاء وتنزع عن التعبير عن نفسها كقوة منبثقة من هذا الفضاء كله. ، فألوانه لم تكف عن الجريان ليس على سطح اللوحة فحسب، بل تغمر ما حولها. فالمناخ اللوني الذي مد ظلاله على الكثير من أعماله ليحرر المزيد من الطاقة الثاوية في أعماقها، لتتدفق بحمولة لونية تلامس اطراف السّحر بتمنع، يزيد من ألقها وتوهجها وقد خرج بها الفنان المبدع من ثنائية الوجود الفيزيائي الى مديات تجاوزت فيها المحدود الى ما بعده . و قد أعطى الحرف فرصة أكبر للإستغناء عن الكلمة وتعامل معه بصفته التشكيلية لا اللغوية، ليخلصه من كثافة القراءة المباشرة وعاد به الى البسيط والأولي، وكان معراجه في ذلك، تدرجات لونية بمرونة غامضة وسحرية ولم يفرّط بأحاسيسه تجاه الحرف وحميمية العلاقة والمطاوعة التي بينهما . فالحرف بهذا المعنى يتبوأ مكانة غيبية كالتي نادى بها ماركوس: ( ان جسم الحقيقة مكون من الحروف ). فحروفه تتحرك بانسجام وإيقاع متناوب وتناسب مدروس، ودوائره متوازنة الإنفعال في دورانها برقصة مولوية من دون ان يغيب عنها عنصر الادهاش. وتكرار المربع يخلق تلامسات كونية توحي برباعية الوجود والأمزجة والأهواء اضافة الى ما يسبغه المربع من توتر متوازن على جو اللوحة، وبعبقرية يُخلّص الفنان الشكل الهندسي من هيمنة المقاسات الحادة ويبعده عن العلامة المباشرة وسذاجة التعريف، ليدخله ملكوت الجمال والجلال، وبنفس الحذاقة قام الفنان بإضفاء حركية متنامية من خلال تكرار الحرف خالقا بذلك حالة من الجدل بين الخفاء و التجلي يتناسب والأجواء الصوفية التي تنبعث من لوحاته. وكثيرا ما تنشأ من حركة الحروف وانسيابيتها وتعرجاتها اشكالٌ على هيئة دوائر في طور التولد والظهور، يدبّ اليها اللون الأسود فتكرعه بما اوتيت من مرونة لتشكل منه مساحات يستريح عندها البصر ليواصل رحلة العشق. والفنان الكبير آرام يتعايش مع الحرف من خلال دلالة ا لشكل وتأويلاته، فحرف الألف بامتداده نحو المطلق له في دنيا العشق الصوفي مكانة نورانية راسخة، فالألف له من الأسماء اسمُ الله ، وله من الصفات القَيُّوميةُ ، وله مقامُ الجَمع، وله المراتبُ كلها ، وله مجموعُ الحروف ومراتبها لأنه يسري في مخارجها كلها سريان الواحد في مراتب الأعداد وسريان التجلي الإلهي في الكون، فهو قيوم الحروف ، يتعلق به كل شيء ، ولا يتعلق هو بشيء ، يُظهِر الحروف ولا تُظهره. والحروف عند الفنان آرام، كما هي عند المتصوفة ، إنها امة من الأمم لا تموت، لها ارواح دائمة الفيض، ملازمة لفيض الارواح على أشكالها، وكل شكل من أشكال الحروف له شكل في العالم العلوي . والنقطة في أعماله كانت حاضرة،وأعطاها مكانة عليّة، لعظمة أسرارها، فبالنقطة تَميز العابد من المعبود . ولهذا صارت الباء أحق من الألف، بسبب النقطة التي تحتها،وهي الموجودات والاعيان. ولأجل هذا قال العارفون بالقرآن : : إن الفاتحة في البَسْمَلة ، والبَسملةَ في الباء ، والباءَ في النقطة مُندرجةُ ومُدمجة ، فهي أمُّ الكتاب. فتكون النقطةُ بين الباء وبين الكونِ هي عينُ التوحيد ؛ الذي هو حقيقة الوجود. وهي التي أضطُهِد وصُلب تحت ظلالها عدد من المتصوفة ، وقال فيها إبن عربي ( نقطة القطب محل نظر الله من العالم ) وأشار الحلّاج : (والنقطة في وسط الدائرة هي الحقيقة، ومعنى الحقيقة، شئ لا تغيب عنه الظواهر والبواطن.. ) فالنقطة هي النبضة الأولى التي منها انطلق الخط المتحرك من عالم الكثافة الى مسارات التجلي. وعبّر الفنان فاسيلي كاندنسكي عن النقطة بنَفَسٍ روحاني، فالنقطة عنده هي أصل الأشكال، وانها منطلق كل تعبير تشكيلي، لذلك فهي ترمز الى الرابط الوحيد بين الصمت والكلام، وهي باعتبارها علامة الوقف ، فهي صمت وكلام في الآن نفسه. ان ثمة نكهة للحرف وقدسية للوصل تعانق الروح وتعرج بها نحو الكمالات، وتأتي أعمال الفنان الكبير آرام وهي تنضح بنصوص صوفية حروفية متعالية من دلالاتها وانزياحاتها. فتجربته الضّاجة بالحرف واللون والرمزية في الإنشاء والتكوين، تُفصح عن قدرة متفردة في الإدهاش . وهذا ما يجعل أعماله تعزز ثقته بإحساسه ووعيه، متجاوزا بذلك عالم الضرورة الخانق، مبدعا عالمه الخاص خارج اطار الخطاب المألوف في العمل الفني، الى عالم اكثر عمقاً من خلال الوصول الى منطقة الصفاء الروحي، لذا فأعماله تُرى ممهورة بختم يترك خلفه الكثير من الغموض الجميل الذي يختزن المعنى ليمنحه لمن يبصر عالم ألّامرئي وذلك من خلال الفضاءات اللونية المنفتحة على التأويل. هذا اضافة الى مفردات أخرى في أعماله، تعامل معها بدقة وبراعة تصل بنا الى حد الدنوّ فتتعاشق الأبعاد و تتلاشى النسب وتفنى الأمكنة ... انه الدنوّ الصوفي على معارج الحرف ونورانية اللون بعيدا عن كل أينيّة، وتمّحي عندها كل غيرية، فيشف ويلطف ليستنفر الأحاسيس التي تظل تتوسل بالنظرة أكثر مما ترجو من اللفظي لإدراك مداها.
حسين السكافي لندن . 25 – 1 – 2014
تعليقات
إرسال تعليق