فكرة عن الجسد....... / حبيب مونسي



1-    فكرة عن الجسد.......   / حبيب مونسي
 
حبيب مونسييبدو لي أن مشكلتنا اليوم ... أننا نعامل الجسد في الفكر العربي بالمفاهيم عينها التي يتعامل بها الغربي مع جسده... الغربي يعيش من أجل الجسد..وفناؤه مربتبط بفناء الجسد.. لذلك تر ى المرأة والرجل يصرفان أموالا طائلة من أجل الجسد في كل مراحل العمر بُغية أن يُحب الجسد، ويُعشق، ويكون مادة للإثارة والمتعة والاهتمام.. فكم من واحد وواحدة دخل التاريخ بجسده .. أو خرج منه بسببه... وأنت ترى اليوم عمليات التجميل تكتسح الفتيات الصغيرات جدا، ولا ينجو منها الكهول رجالا ونساء.. إنها عبادة الجسد...
فهي متأصلة متجذرة موجودة منذ القديم من الأزمان..من أيام اليونان.. وتماثيلهم التي أنجزوها بدقة متناهية.. يقدمون فيها الجسد خاليا من العيوب، كضرب من التعبد للجسد.. ولم يسلم الإله في المسيحية من أن يكون في المعابد والكنائس، جسدا معذبا، مكشوفا، عاريا...
الجسد في فكرنا بدأت حكايته مع آدم وغواية الشيطان له ولزوجه. حينما حثهما على الأكل من الشجرة.. فانكشفت لهما سوءاتهما.. وكشف السوءة، كشف للجسد أمام أنظار الشياطين والجن.. كشفا فيه تدليل على أماكن العورة منه .، ومن ثم وجب ستره.. وتلك عملية قام بها آدم وحواء تلقائيا من دون أمر "فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة" أي أن الستر فطرة في الإنسان.. ولم ينزل الإنسان إلى الأرض عاريا كما يقدمه التصور الغربي.. ولا بدائيا حيواني الطبع، لا يملك مثقالا من العلم والقيم.. وإنما نزل مكسوا .. أيا كان نوع الكسوة... ومن ثم كان الجسد وسيلة للعبادة.. ولم يكن مادة للتعبد أبدا.. وكل العناية به من رياضة، وضيانة، ونظافة.. وغيرها إنما غرضها الأول أن يكون آلة طيعة لأداء العادات والعبادات وتسهيل أمرها لصاحبه...
إننا حينما نميز بين طريقتين لإدراك الجسد، نريد أن نقر للغربي رؤيته. فهو متساوق معها، ينجز ثقافته وتصوراته الجمالية على هديها، ويحدد معاييرها انطلاقا من اعتقاده.. فكذلك يجب أن يكون لنا تصورنا الذي ننجز ثقافتنا عليه، فيكون للجسد عندنا آفاقه الجمالية ومحمولاته الفكرية التي تناسب ذلك الاعتقاد.. وحين نتحث عن الحجب والستر، والنظافة والصيانة، والتدريب والفتوة، وإعطاء الجسد حظه من المتع المشروعة.. إنما نفعل ذلك في إطار من التصور الذي أنشأته ثقافتنا الخاصة.. فلا يكون الستر مثلا عنوانا للقمع والحجر والقهر كما يشرح البعض ويفسر، ولا يكون الامتناع عن المتع غير المشروعة حرمانا.. بل إن أنواع القهر المسلطة على الجسد نطقت بها الكنيسة من أيام تأسيسها الأولى. والتاريخ يشهد على ذلك في مدوناته وأدواته، ماديا ومعنويا.

Photo

2-    الجسد باعتباره نصا... الجسد باعتباره فضاء كتابة...

حينما تُعلق المفاهيم على الجسد باعتباره كيانا مستقلا عن الذات استقلالا نسبيا، تحاول الذات دوما إطراءه والتزلف إليه، من خلال استدامته جسدا غضا جذابا، وبناء قويا متينا، فإنها بذلك تقر للجسد بالوجوده المستقل الذي يتوجب عليها تعهده كل حين. فهو من خلال شخوصه المتكامل للنظر، يمثل ما تطمح إليه من جمال، وما تنتظره من متعة. وبذلك تحقق فيه مادتي الرغبة والرهبة، التي تسكنها إزاء ما يمحوه تباعا من عوارض الزمان، وما يلحقه من آثار التلف.. فليس من شيء أبغض للذات من خط الزمن على صفحات الجسد، وليس أنكر ما تنكره فيه من خط الشيب والتجاعيد.. لأنها احتفار في صلب المتانة، واحتضار في صلب الجميل.. وليس أمامها إلا سويعات من الدهر تجني فيها ما يملأ العين منه نظر ا، وما يشبع النفس منه منه لذة.
وليس الموت بعد ذلك كله سوى الذبول الذي يعتري الجسد، فيدب فيه دبيبا خافتا، يخاتل العين الساهرة، فيمرر بين غفلاتها خطوطه التي تغوص عميقا في أغوار النفس، محدثة موجات من الهلع، تدفع بصاحبها يمينا إلى قاعات صناعة الأجساد، وشمالا إلى العقاقير المحاربة للتلف.. أو تذهب به إلى الجراحات التي تُحتفر آثارها في النفس أكثر من استمرارها في الجسد.


وقد عدل أخيرا عدد كثير من الشباب والشابات إلى تجاوز قلة حظوظهم في الجمال والكمال، إلى اتخاذ الجسد فضاء للكتابة أو لافتات للعرض.. وكدسوا فيها نصوصهم التي تدرك بصريا أثاء التعري.. فكان منها ما تجاوز التشويه إلى الرغبة في المزاوجة بين الحيواني والإنساني، أو الاتركيب بين الآلي والبشري... وكأننا أمام محاولات للحد من سلطة الجسد وجمالياته الموروثة من القديم، والتدرج نحو رفض يحاول أصحابه إعادة صياغة الجسد من جديد "كتابة" على الأقل.. وهي الكتابة التي تحمل في تشكيلاتها صورة للمخلوق الجديد الذي يصبوا إليه الجيل الجديد.. وكأن الهيكل القديم لم يعد مناسبا لما تطرحه الحياة من اقتضاءات متجددة.. إننا الساعة أمام تغيير لخلق الله... "كتابة" و"ثقافة" قد تستمر بنا إلى تغيير فعلي يطال بعض الإضافات التي تحققها الجراحة أو التعدين..




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح