موسى تواتي كان مجنّدا في المخابرات لملاحقة المثقفين المعارضين لبومدين! / الطاهر بن عيشة للشروق


الطاهر بن عيشة

موسى تواتي كان مجنّدا في المخابرات لملاحقة المثقفين المعارضين لبومدين!
أنا عدو "المتمزّغين" وشقيق الأمازيغ الأحرار، ولا مشكلة لي مع المفرنسين

يواصل عميد الصحفيين الجزائريين الكاتب الطاهر بن عيشة شهادته في الجزء الخامس والأخير من حواره مع "الشروق" ...

ما هي قصتك مع مواسى تواتي أيام السبعينات؟

(يضحك).. ثم يكمل حديثه، حتى حكاية موسى تواتي معي تعرفها.. غريب!، هذا الرجل الذي يزعم اليوم أنه معارض ضد النظام، الكثير من الجزائريين يجهلون تاريخه ومساره المهني، فقد كان مجندا في جهاز المخابرات لملاحقة المعارضين من فئة المثقفين على وجه الخصوص، كان لا يبرح مقهى "اللوتس" حيث يلتقي عادة رموز الثقافة في وسط العاصمة فترة السبعينات، يترصد كل شاردة وواردة، يسمع همسنا ويعدّ أنفاسنا، ثم يتولّى كتابة التقارير الأمنية عن المقابلات الشخصية وزوّار المقهى ونقاشات الحضور، ليرفعها إلى مسؤوليه، يخبرهم عن المعارضين لسياسات النظام، ممن يتجرّؤون على سبّ وشتم وانتقاد رجالات الحكم، كان ملازما للمقهى حتى أطلقنا عليه كنية " أزرق عيونو"، ودعني أحكي لك قصة طريفة وقعت لنا معه، فقد كتب يومها تقريرا ضدّ الكاتب الصحفي محمد عباس (جريدة الشعب)، والتهمة هي الجلوس مع الطاهر بن عيشة، وفي اليوم الموالي جاءت فرقة الأمن لتعتقلنا معا، حيث اقتادونا على متن سيارة واحدة، لكن عند الركوب، توجهت إلى مسؤول الأمن، وقلت له: اعتقالي أنا مقبول لأنّي أسبّكم، لكن محمد عباس "راه شيّات معاكم"، لماذا تعتقلونه بسببي .

هل فعلاً رفضت الانخراط في نقابة جامعية مع عباسي مدني وعبد القادر حجار في الستينات؟

 صحيح... ( يضحك) يبدو أنك على علم بتفاصيل حياتي النضالية، لقد جاءني عباسي مدني وعبد القادر حجار عام 1964 لأساهم معهم في تأسيس اتحاد طلابي في الجامعة، كوني معروفا بنشاطي النضالي وميولاتي النقابية الفطرية، فنهرتهم علنًا ورفضت الفكرة من أساسها، وقلت لهم أنتم وأنا لسنا طلبة من حيث الأشواق والاهتمامات والمرحلة العمرية، لكن الظروف التاريخية هي التي ساقتنا إلى هذا المكان في وقت متأخر حتى نستكمل مسيرتنا العلمية، فالطالب الحقيقي لا يتجاوز عمره 28 سنة، ولا يكون موظفا ولا يتقاضى مرتبا، وليس متزوجا، بينما نحن لا تتوفر فينا هذه الشروط، فكيف ننتدب أنفسنا للحديث باسم الطلبة، ونقتحم حقل التنافس الطلابي، هذا استغلال وانتحال للصفة، وأنا أرفض أن أستولي على مكانة غيري، فلكل جيل حقه الذي لا يُقبل أخلاقيا إنكاره أو القفز عليه، وقبل أن نفترق، قلت لهم أقصى ما يمكنكم فعله هو مساعدة الطلبة في نشاطهم، أما تخطيطكم لأخذ حق الطالب في تمثيل نفسه فسوف أكون أول من يحاربه.

معروفك عنك أنك "معارض مشاكس" عبر كل المراحل، رفض الصمت حتى في عهد الموسطاش بومدين (رحمه الله)، هل تعرضت لأي تهديدات طيلة عهد الأحادية وبعدها؟

 لا.. لم أتعرض لتهديد مباشر، لأني كنت أرفض الاحتكاك بالسلطة، جهاز المخابرات كان يلاصقني مثل ظلّي، يتتبعون خطواتي في كل مكان، وأظن أنهم لم يجرؤا على تهديدي لأنهم يعلمون أن التضييق لا يفلح معي.

هل كلفك الجهر بـما تعتقده "حقّا أو حقيقة" أن تدفع الثمن في أي موقف لاحقة؟

 ربّما... لكنّي اخترت هذه الطريق عن قناعة وكنت أعلم سلفا ضريبتها.

نعرّج الآن لاستيضاح بعض المواقف المثيرة للجدل والتي رافقت مشوارك الثقافي والنضالي، أولا لماذا أنت ناقم على الفرنكوفونيين في الجزائر، ألا ترى أن الانقسامية النخبوية وفق الأساس اللغوي أثرت سلبًا على مشروع بناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال؟

 إذا كانوا يعتقدون ذلك فهم مخطئون، أنا لم تكن لي يوما مشكلة مع الفرنكوفونيين، بل أنا عدو أبدي للفرنكوفيليين الذي يتنكرون لأصولنا وهويتنا وانتمائنا الحضاري، لا أؤمن إطلاقا بالخصومة بين المعربين والمفرنسين، لهذا أرفض بتاتا تقسيم الناس والنخبة على هذا الأساس، بل بالعكس كنت حريصا على اكتساب اللغة الأجنبية، وقد تعلمت بشكل عصامي اللغة الفرنسية، إذ كان لي صديق مفرنس لا يعلم شيئا في العربية، فعلمته اللغة الأمّ فيما تكفل هو بتعليمي لغة الآخر، فخرجت بذلك من أحاديتي اللغوية، وبالمحصلة أنا لست معقدا ولا كارها للفرنكوفونيين، بل كان منهم أقرب أصدقائي، وعلى رأسهم كاتب ياسين.

أما عن إفشال المشروع الوطني، فلا شك أنّ الفرنكوفيليين اليد الطولى في ذلك، لكنهم قد يكونون معرّبين أحيانا لسانيّا، ومرتبطين وجدانيا ومصلحيّا بفرنسا.

ما دمت قد تحدثت عن الصراع اللغوي، البعض يعتبر بومدين "خادم العربية"، في حين يراه آخرون داعم المفرنسين في الجزائر، حيث منحهم الإدارة والتسيير، أين تضع أنت سياسات المرحلة البومدينية؟

 بومدين والرئيس الحالي حينما يتحدثون بالفرنسية يترنّمون بها، كأنهم مزهوون بلغة العدو، يتغنون ويتلذذون بها.

لا أظنّ أن بومدين كان يترنّم بالفرنسية، لكن ماذا عن سياسات عهده بهذا الخصوص؟

في تلك الفترة التي أعقبت الاستقلال، كانت الفرنسية أمرا واقعا، وكان تعريب التعليم يتطلب التدرج والتفكير بواقعية، وهذا ما كان بومدين يأخذه بعين الاعتبار، لأنه لم يكن من الممكن استبعاد اللغة الفرنسية، والإطارات المتوفرة تكونت بها وهي لغة عالمية أيضا، وربما هذا ما يفسر تعامل الرئيس بومدين بصفة واضحة مع المفرنسين الذين قرّبهم من حاشيته وحكمه، مع احتفاظه ببعض المعربين ومزدوجي اللغة.

يعني أن بومدين ورث واقعا تاريخيّا، دون أن ننكر أنه أطلق مشروع التعريب؟

 بالفعل هو كذلك..." هاذاك واش حلبت"، بومدين لا أظن أنه كان ضد المعربين، لكنه فكر في واقع البلاد التي ورثت موارد بشرية ووثائق وملفات كلها نتاج المرحلة الاستعمارية، فكان موقفه من اللغة تكتيكي، يندرج في إطار الدفاع عن المصالح الإستراتيجية للوطن، وإلى اليوم ما تزال المعادلة صعبة، ولا تنسى أننا نملك شعبا كاملا يقيم فوق الأراضي الفرنسية بعد نصف قرن من استرجاع السيادة الوطنية.

قصة التيمّن بقاتل الكاهنة "زهير بن قيس البلوي" يعلمها الجميع، حين زعمت أن الفضل يعود إليه في إسلامنا اليوم لذا سمّيت عليه أحد أبنائك، لكن هذا التبرير لا يبدو مقبولا لدى من تصفهم بـ"المتمزّغين"، أليست لك حساسية عرقية وتاريخية مع الأمازيغ؟

 لا أبدا... فيما يخص الحساسية العرقية، فأنا لا فرق عندي بين العربي والعجمي والأبيض والأسود إلا بمقدار الوطنية والإخلاص في خدمة الأمة والدفاع عن انتمائها ومصالحها، لكن الخلاف التاريخي معهم فهو حقيقة لا أنكرها، وهو خصومة مع المتمزّغين فقط، أما الأمازيغ الأحرار فهو إخواني وأبناء بلدي، أنا منهم وهم منّي.

ماذا تعني بذلك؟

 أعني بالمتمزّغين تلك القلّة التي تحاول تغيير وقائع التاريخ بالتزوير وإنكار الحقائق باسم الانتصار للهوية الثقافية، وهي الفئة التي تعادي العمق الإسلامي والعروبي للجزائر بخلفيات جهوية مشبوهة، لأنها في الواقع لا تمثل اتجاهات الأمازيغ الأحرار بل تخدم أجندات فرونكوفيلية، وأنا أميّز هؤلاء عن الأمازيغ الأصليين الذين ينحدرون من بلاد اليمن من قوم عاد وثمود، أما المتمزّغين فهم من عنصر جرماني وفدوا إلى شمال إفريقيا من مصبّ الدانوب، يضمرون ضغينة شديدة على الفاتحين العرب الذين حملوا لنا رسالة الإسلام السمحاء، ونحن احتضناه طواعية ونقلناه إلى ما وراء البحر، أما الأمازيغ الشرفاء فهم يعتزون بالامتداد العربي وبإسلامهم، وهم يتوزعون في كل جهات الوطن من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.

في قضية أخرى.. أنت واحد من المثقفين الداعين من زمان إلى الكتابة حول "تناقضات الثورة" في الجزائر، هل يمكن أن توضح خلفية ذلك، والهدف المرجو من هذه الدعوة؟

 ببساطة...لأنني أؤمن إيمانا جازما أنه لولا التناقضات لما قامت أصلا الثورة، ولأنه من الطبيعي أن تحدث التناقضات في كل الثورات البشرية والحروب الكبرى، تنشأ عن الجذور الثقافية وتصادم المصالح أيضا، حتى الذين اعتنقوا الإسلام في فجره الأول، لم يعتنقوا جمعيهم الدين الجديد عن إخلاص وقناعة، فما بالك بثورات الأوطان، لكن في النهاية تسمو رسالة الثورة وتنتصر إرادتها برغم ما تنطوي عليه من تناقضات، وفهمُ جوهر أزمات الحكم والسلطة تبدأ من دراسة تناقضات الثورة ذاتها.

كان الشيخ سعيد الزاهري (رحمه الله) من أقرب الأصدقاء إليك، وشاركتما معا في تحرير "عصا موسى"، لذا تظهر متعاطفا معه، هل تعتقد أن اتهامه بالعمالة للحكومة الفرنسية زمن الثورة كان مخالفا للواقع، أم أن الحكم عليه بالإعدام كان قاسيًا؟

 (يتأفف.. ثم يجيب)..  سعيد الزاهري أصبح عميلا لفرنسا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الرجل لا علاقة له بفرنسا ولا بالفرنسية ولا بالمفرنسين، كان يحبّ ويعرف فقط اللغة العربية، وهو أول من استعمل تعبير "المغرب العربي"، ولم ينس له الجهويون من أعداء العروبة والوحدة المغاربية هذا الموقف.

تنفي أن تكون له علاقة مع الحكومة الفرنسية؟

 أبدا... أنا أعتبر من قتله هو الخائن، كيف يكون الشيخ الزاهري الأديب الحكيم عميلا للاستعمار وهو الذي كان محبوسا في سجونه، وأنا أعتقد أن دعوته لمغرب عربي واحد هي التي أودت به إلى أن يلقى مصيره مقتولا.

أنت تقدم اتهامات خطيرة لقيادة الثورة من دون دليل؟

 تريدني أن أكذب، بل أقول الحقيقة كما هي وأنا واثق من كلامي، وقد اعترف ضمنيّا من حكم عليه بالإعدام بجرمه، وندم على فعلته الشنيعة.

تقصد عبان رمضان؟

 نعم هو من أمر بقتله، وقال فيما بعد إنه لم يندم على شيء مثلما ندم على إعدام الزاهري.

البعض شبّهك بقصة "الرجل الذي يبول في البئر"، لأنك متمرد وناقد للجميع، فمالك بن نبي كلب صالونات، والمقراني خائن، ومولود معمري ليس مثقفا، ووو... من وجهة نظرك أنت، بماذا تردّ على هؤلاء؟

 هم سفهاء قوّلوني ما لم أقله، فأنا لم أنتقد في حياتي المفكر الكبير مالك بن نبي، بل بالعكس أنا أجلّ هذا الرجل العملاق الذي جاد على الأمة بكتاب "الظاهرة القرآنية"، نحن في حاجة دائمة إلى قراءة جديدة في أفكار وأطروحات بن نبي التجديدية، حتى مولود معمري، لم أقرأ له أي نص حتى أحكم عليه سلبا أو إيجابا، قد نختلف في المواقف والاتجاهات، لكن على الصعيد الثقافي، أنا لم أتحدث عنه بتاتا، أما فيما يخص الشيخ المقراني، فأنا متمسك بموقفي القديم، وهو نتاج استقراء موضوعي للتاريخ، خلصت من خلاله إلى أن كل الثورات الشعبية التي انطلقت في الجزائر من الزوايا كانت بدواعي الحفاظ على امتيازاتها الفئوية التي حرمتها منها فرنسا، ولم يكن أبدا دافعها الأول هو نيل الحرية النفيسة والدفاع عن الوطن المفدّى، باستثناء الأمير عبد القادر الجيلالي الذي كان ثائرا وطنيا مغوارا يحمل مشروع دولة جزائرية عصرية.

هل بقي في جعبة الأستاذ الطاهر بن عيشة أسرار لم يبح بها حتى الآن أو يرفض الإفصاح عنها، وإلا فكلمة أخيرة ننهي بها الحوار؟

 وفق تجربتي الخاصة وتأملاتي في الواقع، أنا أقول إن الجزائر لم تخدم بعد الثقافة الوطنية، لم نضع بعد معالم العمل الاستراتيجي لترقية مختلف الفنون والآداب والحظائر، فالواجب الآن يقتضي إعادة الاعتبار للعلوم حتى نقرّبها إلى أذهان المواطنين، لا سيما الجيل الجديد من الشباب لغرس الروح الوطنية، وتطويق خرافات الجهل، وتنمية معاني الوفاء تجاه الثوريين المخلصين الذين افتدوا هذه الأرض الطاهرة بأنفسهم ودمائهم الزكية، من أجل أن تحيا الجزائر واحدة موحدة تتطلع بأمل وتفاؤل نحو المستقبل الواعد، وفي الختام أشكر الشروق الغراء على هذه الفرصة الطيبة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح