"اشرب تر ... واشتبه تنتبه" للشاعر عيسى قارف قراءة في العنوان / قاسم شايب
"اشرب تر ... واشتبه تنتبه"
للشاعر عيسى قارف
قراءة في العنوان
للشاعر عيسى قارف
قراءة في العنوان
قاسم شايب
مجاز
المتأمل في عنوان المجموعة الشعرية "اشرب تر ... واشتبه تنتبه" للشاعر الجزائري عيسى قارف الصادرة عن وزارة الثقافة، ينتبه قبل أن يشتبه إلى نص مصغّر يؤم النص الأكبر، ويحيل إلى سمك دلالي مشحون بالمعاني الرمزية التي يجليها السياق، ليغادر فضاء المعنى إلى فضاء الإحساس بتلك النبضات العميقة التي تولّد المعنى المقصود. ذلك أن " قصدية العنوان تتأسس على علاقته بخارجه سواء أكان واقعاً اجتماعياً أم نفسياً، وعلى علاقته بقصد الشاعر الذي يحمل صورة افتراضية للمستقبل".(1) ولأنّ "مقاصدَ المتكلم مؤشراتٌ حاسمةٌ في عملية التأويل، و إلغاءَها إلغاءٌ لجزء معتبر من معمار المعنى النصي إن لم يكن إعداما مطلقا له".(2) فالكلمات إذن "كائنات تحمل إلينا المعارف كما تحمل تحولات عميقة، وبقايا من اعتقاد الإنسان وتصوراته والتركيب المؤلف للوحدة النصية إذاً حامل للخبرة، والقراءة خلق جديد له .
سنستهد ف العنوان كوحدة قابلة للتحليل اللغوي وكأساس لتفكيك اللفظ ، وتبيان مراميه بوصف العنوان أقصى اقتصاد لغوي في النص الأدبي. وصورة تركيبة مترابطة، يتحكم النحو في بنيتها، وبذلك ننحى المنحى اللغوي في التفكيك والبناء على غرار اللغويين الذين ينظرون إلى اللغة على أنها إنجاز فعلي واقعي، وليست بنية مبتورة عن سياقها التواصلي. لأنّ هناك حركات إعرابية تعود إلى قصد دلالي من مرسل الخطاب، كما أن ظواهر الحذف والمجاز والكنايات وغيرها، لا يمكن فهم المقصود منها إلا بربط الخطاب بسياقه التداولي،من دون أن نهمل توظيف الأدوات الإجرائية التي تتلاءم مع تحليل عتبة العنوان. مع الغوص في الأبعاد الدلالية التي يتّخذها، والتي تزيد من كفاءته في الاستجابة لفعاليات القراءة ، بوصف العنوان هو "البنية الرحمية للنص، التي تشكّل سلطته وواجهته لما تحمله من وظائف جمالية/تأثيرية/إغرائية/... "(3) فالنصّ العنوان ينتج قراءات لا نهائية، وحرّية المتلقي في تحطيم المعنى الحرفي للنص لصالح سياق المتلقي،يجعلنا احيانا ننحى قليلا كذلك إلى تحطيم أطر المعنى الظاهر كمعطى وهوما ساقه الآمدي من أن ّالمعنى الحرفي غير موجود، لأن المعنى غير متعلق بأوضاع الكلم فحسب، ولكن بقصد المتكلم وإرادتهّ.
ومرورا بالتحقق العيني للدلالة اللغوية مع الإحالة للتربة اللغوية السائدة، ثم التمرّد عن سلطة الكلمة، وتأويلها بمقتضى ما تحتمله من معان أو تجوز به عن موضوعه كما يقول علماء اللغة من أنّ التأويل: "صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله"، والمجاز "كل لفظ تجوز به عن موضوعه."(4) ثم النظر إلى الأوجه التي تتيح المعاني المتأتية من التركيب عبر دلالاتها وسياقاتها.
موادّ العنوان ( اشرب، ترى ،... ، و، اشتبه ، تنتبه)
أربعة أفعال تشكل جملة فعلية من مقطعين وهما (اشرب تر) و(اشتبه تنتبه) وكلا الجزأين جملة تامة، ووحدة نصيّة مستقلة بذاتها، والكلام كلّه يلبس صيغة الأمر، والأمر كما هو معلوم طلب الفعل على وجه الإعلام ، علاوة على أنّه احد الخطابين بتعبير "باختين" الذي يميّز بين نوعين من الكلام: بين "الكلام الآمر والكلام المقنع" .. لكن الأمر هنا في (اشرب تر.. واشتبه تنتبه) أمر غير حقيقي يفيد الإباحة والالتماس والإرشاد بحسب السياق، وفيه اقتراح للمعرفة والتعلّم. والمعرفة والتعلّم لا يكونان إلا من معلم، لذا فالطلب هنا فوقي يفيد بسالف معرفة صاحبه الذي يكون قد شرب فرأى من قبل.كما يتضمّن شرطا وجوابا للشرط على التقدير التالي: إن تشرب تر وان تشتبه تنتبه.
المقطع الأول:(اشرب ترى).
(اشرب) مصدر الكلمة شرب وجمعها مشرب ومشارب ومشروبات وشراب.
فالشرب والشراب عامة هو الارتواء، ويطلق على كل سائل يروي. قال تعالى (يخرج من بطونها شراب)(5) ، والفرق بينهما أن الشرب مصدر، والشراب اسم، وأحيانا ما يضاف إلى كلمتي الشرب والشراب هو الذي يحدّد نوع المشروب، فإذا قلت شراب الجنة، فانك تعني الخمر تحديدا، لأن شراب أهل الجنة هو الخمر. وفي المقطع (اشرب تر) مقرونا بالرؤية سواء كانت بمعنى النظر أو العلم يحيلنا سياق المعنى الدارج في كلام المتقدمين إلى الخمر.
وقد يأتي بمعنى التّشبع قال تعالى في القران الكريم ( واشربوا في قلوبهم العجل) أي خالط قلوبهم
و جمع الكلمة مشارب والمشارب هي كذلك المنابع والمذاهب (يقال على مختلف مشاربهم بمعنى مذاهبهم وثقافاتهم ) وهنا يحيلنا الفعل كذلك إلى الجملة البديلة "اتّخذ لك مشربا" وهو ما يضيف معنى جديدا للفعل (ترى) كذلك.
(ترى)
الرؤية في المطلق تكون بالعين، وهنا في العنوان بمعنى العلم حسب السياق، قال تعالى من سورة الفيل "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل" أي بمعنى ألم تعلم، لأن النبي لم يعاصر أبرهة وجنوده، والإحالة واضحة
إلى العلم والمعرفة . كما أن الفعل ترى جواب الشرط .
والمقطع ككل يحمل مفارقة، تكمن في أن الشراب بمعنى المدام ذهاب للعقل، والرؤية عامة - سواء كانت عينية أو بمعنى العلم- تعني حضوره.وإذا أخذنا معنى المعنى فإنّ الشراب يُذهب العقل ويقلل من كفاءته، والرؤية - بمعنى العلم- تحثّ على حضوره، فالمفارقة إذن تكمن في تنافي العلم مع الشراب.
كما يجرّنا إلى مثول مقطع مقابل يقترحه سياق الشرط وجوابه، وهو (إن لم تشرب لن ترى، أو إن لم تشرب لا ترى). أمّا سياق الكلام فيحيلنا إلى ربط عضوي بين (الشراب) بمعنى المدام والرؤية بمعنى (العلم) كما يحيل إلى تناصّات في المعنى، ونعني كل وحدة نصّية شعرية يتعالق معناها أو مبناها مع العنوان .. يقول عبدالله محمد الغذامي : "والنصُّ الأدبيُّ "يَدخُل في شجَرة نَسبٍ عريقة ومُمتدَّة تَمامًا مثلَ الكائن البَشريِّ، فهو لا يأتي مِن فَراغٍ، كما أنَّه لا يُفضي إلى فَراغ"(6) ونعني هنا تحديدا المعنى في ارتباط الشراب بالعلم والحكمة والرؤية المتبصرة.وهذا المعيار في التأويل لا يتعلق باستبدال مماثل بمماثل، بقدر ما هو استبدال يفتح على شيء آخر، ولو بقدر طفيف من التعالاقات، أو بعبارة أدقّ اعتماد مسترسل المضمون بمسترسل العبارة.خصوصا ما تعلّق بالرمزية والدلالة.حين يرتبط الشراب بالرؤية.
فابن الفارض يسوق نموذجا لرمزية الشراب في الشعر الصوفي والاهتداء ووضوح الرؤية يتعالق مع المقطع (اشرب تر) بقوله:
ولوخُضِبتْ مِن كأسها، كفُّ لامسٍ
لَما ضلَّ في ليل، وفي يده النجمُ
نورد هذا لنخلص إلى المعنى الموازي الذي يقترحه عيسى قارف وإلى التناص الداخلي الوارد في البيت التالي:
اشرب تر يا حادي الجُلا س
ماء اليقين على شفاه الكاس
ولنجعل القصد يجري مع المعني المتضمَن فيما قال عنترة بن شداد :
فَرُشْدي لا يُغيِّبُهُ مُدَامٌ *** ولا أُصْغي لِقَهْقَهة ِ القناني (7)
وما الرشد سوى حضور العقل وملكة التمييز، وعن طريق المقابلة "نقيض المعنى" يحيلنا المعنى كذلك إلى أبي نواس الذي عاش حياة متهكّمة، وشعره كلّه يمجّد عدم الصحو. كما نُحال إلى دلالات أخرى، فقد استخدم بعض الشراب"النبيذ" لدلالات دينية أو رمزية عبر السنين، مثل الديانات الرومانية الإغريقية في طقوس السعادة للإله ديونيسوس إله النبيذ؛ وأيضاً في الديانة المسيحية في القداس الإلهي؛ وفي الشابات اليهودي واحتفالات يهودية أخرى مثل الفصح". وفي اليوم الأخير من حياة المسيح الأرضية، أخذ كأس الخمر وقدّمها لتلاميذه قائلاً، "هذا هو دمي" (8) وتقديم الكأس للتلميذ تعليم وحث على المعرفة المتبصرة وهو معنى يتقاطع مع معنى المقطع الأول (اشرب تر) تماما كما تجسده لوحة العشاء الأخير.لـ يوناردو دافنشي
أما الخيام، فقد أشاع في أهم شعره وهي الرباعيات أن الخمر تسمو بروحه، حتى تصبح في نجوة من الجسد. فهل هذا المعنى إحدى مقاصد الشاعر.؟ انه معنى آخر للرؤية من الشراب.تبدّت لنا فقط.
ولنلحق النقاط المتتابعة بين مقطعي العنوان - كعلامة لمقطع مستتر - بالجزء الأول، فهي تفتح مجالا لتأويل الكلام المستتر، لأنّ النقاط المتتابعة تعني في اللغة كلاما محذوفا، وقصدية الكاتب أثناء هندسة تشكيل العنوان واعتماده على الفصل بين مقطعي العنوان بالنقط تبرز أهمية السعي إلى التواصل، والتفاعل مع القارئ .ولنقترح إحدى هذه التفاعلات بالقول: اشرب تتعلم الكثير، أو اشرب ترى العجائب.
لكن السؤال الذي يقترح نفسه بشدة .ما نوع وقيمة هذا الحذف بل ما هي وظيفته؟.
فالحذف لغة إسقاط جزء من الكلام.والجرجاني نوّه بقيمة أسلوب الحذف بقوله : "هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد في الإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تُبِنْ". (9)
ويذكر علماء اللغة والبلاغة أن الحذف في الكلام . لغرض ، زيادة اللذة باستنباط المعنى المحذوف، وهنا في العنوان (اشرب تر ... واشتبه تنتبه) و علاوة على ذلك غرضه التنبيه أو للإضمار وهو تعمّد الشاعر أن يضمر من القول المجاور لبيان أحد جزأيه. وهذا يزيد التركيز على المقطع الأول(اشرب تر).
وربما كذلك للمقابلة وهذا يسمى في اللغة (الحذف المقابلي)، وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحدف من واحد منهما مقابله؛ لدلالة الآخر كتقدير الكلام المحذوف بما يلي: إن لم تشرب لن تر، مقابل اشرب ترى
علاوة على تعمّد تقليل الجهد والاقتصاد في اللغة وحاجة لفهم التركيب ككلّ.
من خلال الكلام الآنف ذكره نخلص إلى التراكيب التالية من المقطع الأول:
- اشرب تتعلّم.
- اتخذ مناهج ومذاهب تتعلم.
- اتخذ مناهج ومذاهب تر.
- اشرب تعلم.
- تعلّم تر.
المقطع الثاني (واشتبه تنتبه).
الجملة معطوفة على الجزء الأول، والعطف كما هو معلوم يفيد الاشتراك في الحكم والعلة.قال الجرجاني "من صفات العطف الاشتراك في الحكم والعلة" وإذا كان الحكم هو تأدية المعنى المفهوم من الأمر، وغالبا هو الإرشاد، فالعلة هي(التشريك) لذي أجاز العطف لان كلا الجملتين إنشائية والمسند إليه واحد وهو المخاطب.. لكن لكلّ مقطع استقلالية المعنى .
(اشتبه)...
" الاشْتِباهُ في الأمْرِ ": الشَّكُّ ، وجودُ الْتِباسٍ .يقال اشتبهَ عليه الأمرُ : اختلط أو التبس .والشك كما هو معلوم هو تعليق الحكم في انتظار إقراره أو إنكاره، للتلبس بحالة اشتباه.والاشتباه حالة (بين البين) لن تتبيّنها إلا بالعلم واليقين المتأتي من الشك وزعزعة اليقين، والدعوة إلى لاشتباه هي دعوة للعلم أو التعلّم، ومحاولة لزرع الشك في يقين المتلقي وتحفيزه على السؤال وإغرائه واستفزازه على طرح السؤال، وتقفي جوابه عبر المتن الشعري ، وهذه حالة تنزغ إلى الفلسفة، والشك المنهجي في التقاليد الفلسفية إستراتيجية لاكتساب المعرفة، و منهج لتقدّم العلوم والتجارب، فهو الذي يضمن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى أكثر تثبتا و أقرب إلى اليقين.
(تنتبه) الانتباه حالة يقظة وحضور وهي جواب الشرط، والمعنى انتبه تكن نبيها "من النباهة" أو تصبح نبها تكن فطنا أو منتبها من الانتباه.
والمقطع ككل يحمل مفارقة الاشتباه واليقين، وهو يؤول ضمن العنوان ككل لان الكلام ليس ابتدائيا، باعتبار علّة العطف والاشتراك مع المقطع الأول. لكننا سنخلص منه إلى التراكيب التالية:
- استعمل الشك تصل إلى اليقين.
- استعمل الشك تتثبّت.
- شك تنتبه.
- شك تكن فطنا.
- شكك يقود إلى اليقظة.
التركيب ككلّ( اشرب تر... واشتبه تنتبه).
شطران لبيت شعر من بحر المتدارك، ينطويان على مفارقة المنطق واللامنطق، فالجزء الأول دعوة للعلم والحكمة والنظر، والجزء الثاني حث على الاشتباه للوصول إلى اليقين، والمقطعين تهيمن عليهما فكرة محورية مفادها حث على إعادة صياغة الذات في زمنها. لكن هل هذه الدعوة على تعّدده أوجهها تخص الحاضر؟. كما يتّخذ العنوان ككل مستوى يتخطى فيه حدود هذه الاستقلالية، ليتجه إلى العناوين الفرعية، حيث تتشابك معه في إنتاجية دلالته .كمعطى لا يخرج عن ماهية الكون الشعري، بما في ذلك استحضار التاريخ الشعري وهو انسجام إيقاعيّ مع الفكرة الكونيّة القادرة على احتواء الوجود أو العالم، بلغة عقلية وهو سعي حثيث نحو ماهية الشعر الذي يهبنا حسًّا بالأبديّة، ويجعلنا نعيش الغواية.
ولالتماس الإجابة عن السؤال السالف، نقول أن الدعوة تخص الماضي أيضا، كما يوحي به السياق الذي يرتد إليه العنوان وكما يراه امبيرتو إيكو من أن "السياق يمكن أن يكون ثقافة ألف عام كما يمكن أن يكون قصيدة شعر أو رسما أو تخطيطا". (10)
استدعاء التاريخ من دون فرصة تقويمه، فقط لان الحاضر يستمد بعض معناه من الماضي، كأنّ الحاضر مشروع دائم للماضي .عبر الحفاظ مع العلاقة الحميمية .ونحن نستشف من بحر البيت الخاص بالموشحات والترجيع من صداها تناصات في المعنى والمبنى ..تحيلنا إلى زمان ومكان شبت(11) فيه الموشحات. والموشحات ماض وتاريخ تزامن مع عصر الفلسفة .وهذه الإحالة يتحقّق فيها الزّمكان كما يعرّفه باختين من أنّه "التّرابط الدّاخلي الفنّي لعلاقات الزّمان والمكان المعبّر عنها في الأدب"
فالمكان هو الأندلس والزمان عصر الموشح والفلسفة. التي كانت وقتئذ بمعنى الحكمة، واستعملت الكلمتين.
(حكمة) و(فلسفة) كمترادفتين أو مفهومين متطابقين، أو حكمة / كما في الفلسفة الإسلامية "ابن رشد في فصل المقال" وفي هذا نجد علّة الربط بين مقطعي العنوان ّ اشرب تر... واشتبه تنتبه"، وهي أن الحكمة تأتي بعد علم وتبصر وتجارب وهو احد معاني المقطع الأوّل وهذا بعدما وجدنا الاشتراك في الحكم.
يقول ميخائيل باختين: "كلّ كتابَة أو نقْشٍ هي امتدادٌ لسابِقاتها، تُثير سِجالاً معها، وتَنتظِر رُدودَ فعلٍ نَشِطة في الفَهمِ، تَتجاوَزُها وتَستبِقها" (12) وهذا ما نعنيه من استحضار الماضي.. انه توق لتجاوز الزمن يسعى إليه الشعراء عبر التاريخ، وكأنهم يعاتبونه على عدم ذكرهم قبل ميلادهم، يقول المتنبي:
أريدُ من زمني ذا أنْ يبلّغني *** ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ
الأنا والقصدية
العنوان مستهدف به الآخر (المتلقي) ممثلا في الضمير (أنت) الذي يحيل مباشرة إلى المتكلم الذي هو (أنا)
لأنّه عند النطق بـ"أنت" المخاطب بالأمر نكون قد وضعنا مباشرةً أمامَه كائنا آخرَ، هو " أنا "، ويشكل الأوّل الإطار الخارجي المقابل للإطار الداخلي الممثل في ذات المتكلّم و(الأنا)، والأنا كما وصفها فرويد هي شخصية المرء في أكثر حالاتها اعتدالاً بين ألهو والأنا العليا"( لأن الأنا العليا هي شخصية المرء في صورتها الأكثر تحفظاً وعقلانية. وهذه ليست أنا الشعر. فهل هذا الضمير في العنوان (اشرب تر واشتبه تنتبه) يشير إلى شخص مادي حقيقي هو الشاعر؟ أم نوع من العلامة ذات مدلول عام يجعلنا نستبيح الحديث عن (أنا) الشاعر بصفة عامة أو(أنا) الحكمة و(أنا) الفلسفة وإرجاعاتها التي تقودنا إليها العبارة الظاهرة؟ فدلالاتها تفك بعض مقاصد العنوان ومنها:
- أنّ دلالة " الأنا" على نية مبيتة مسبقاً، لحكي قصة ذاتية التبصر والشك والتعلم.
- ضمير " الأنا" جعل الخطاب مندمجا في روح الشاعر، وبأفق الذات التي تسعى للتعبير بفنها عن الحياة كلها، وعن حقائقها جمعاء.
- ضمير المتكلم يحيل على الذات مباشرة.والذات تحيلنا إلى قدرة الشاعر على الاستشفاف من تجارب الغير فالشعر فن يزاول بالإرادة الذكية والرغبة الملتهبة.
وقد يعنينا (الأنت) بما انه الأهم في إنتاج النص وبعثه، فقد نلحظ إقدام الشاعر على هدم القيم والتقاليد الشعرية السائدة بوعي ضروري، فالأمر باتجاه المذكر في العتبة الكبرى يقابلة صيغة التأنيث في العتبات الصغرى التي تشي بتكفّل الحضور الفاعل للتأنيث مما يوحي بإشاعة الروح العاطفية على امتداد القصائد . ولو أن الصور التي تقذفنا بها العناوين ( ليلى عارية، كان الفراغ هي ، كأنها اللغة، تاء المؤنث ملساء) تشي ببداية اشتغال على منحى آخر للشعر كما يوضح ديوان الشاعر الأخير (مهب الجسم/مهب الروح)(13)، ونحن لا نرهن استنتاجنا بالعتبات الصغرى أو بنزوغ الشاعر إلى ما صار يعرف بهيروتيكا الشعر في (ليلى عارية ، تاء المؤنث ملساء) وهو توليد مما كان يحويه «التراث» من كتابات إيروتيكية ناضجة قُمعت أو تم إخفاؤها والتنصّل منها. فقد يكون الأمر نوعا من المقابلة، أو تمرّدا على سلطة الكلمة، بقدر ما نحاول إيضاح الفكرة المحورية التي تهيمن على العنوان، والتي تستشف من خلال تعالقات العنوان بمداخل القصائد.
مثل : اشرب تر** ياحادي الجلاس
ماء اليقين ** على شفاه الكاس (14)
السمات
ـ أولى السمات التي نلحظها أن الشاعر اجتزأ بيت شعر من الديوان ليؤمّ المتن، مشوشا بذلك المدخل المألوف لفهم المعنى – المعنى الظاهر- و المعيار التقويمي الموروث. ليقترح غواية من نوع أخر لكنها غواية لا تخرج عن اقتباسات من الكون الشعري بمنطق يتم فيه تجاور المعنى وتحطيمه.
ـ ثراء العنوان بالدلالات المشحونة بالمعاني الرمزية.
ـ العنوان تحكمه مفارقة الكلمات ومنها تغادر فضاء المعنى إلى فضاء الإحساس.
ـ العنوان إيجاز مناسب لباقي العتبات الفرعية.
ـ اشتماله على مفارقات عدّة في مقطعي العنوان وفي العنوان ككلّ أنتجت ربما إغرائية العنوان واستفزت القارئ للسؤال.وإعادة الإنتاج.
ما يعنينا في كل ما ذكرنا أن العنوان حقق وظيفته كجسر تكفّل بربط القارئ بنسيج النصوص الداخلية ربطا جعل منه إيجازا مناسبا للعتبات الصغرى،ومن ثم للنص كلّه. فهو الوحدة الرحمية التي تتوالد منها الإشارات والعتبات الصغرى.وتشي بمعنى المتن ككل.
بلقاسم الشايب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1) اللسانيات في الثقافة العربية وإشكالات التلقي حافيظ إسماعيلي علوي
(2) إسلامية المعرفة، العدد 14، 1998- 1999، ص ص7-29
(3) العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبي - د. محمد فكري الجزار- الهيئة المصرية للكتاب- 1998
(4) جعفر عبد الله الوردي الشعر بين الحقيقة والمجاز
(5) الآية (69) سورة النحل
(6) عبدالله الغدامي عن مالك مرتاض تحليل الخطاب السردي.
(7) عنتر بن شداد
(8) انجيل مرقس 14/ 22-26
(9) دلائل الاعجاز للجرجاني
(10) ص111 من كتاب السيميائية وفلسفة اللغة امبيرتو ايكو ترجمة احمد الصمعي
(11) القصد هو المعنيين: ترعرعت وكذا انتشرت
(12) ص109 من كتاب السيميائية وفلسفة اللغة امبيرتو ايكو ترجمة احمد الصمعي
(13) صدر عن الدار العربية للعلوم ببيروت ،2010
(14) من ديوان اشرب ترى.. قصيدة الحادي.
تعليقات
إرسال تعليق