*رقان حبيبتي* / السعيد بوطاجين



*رقان حبيبتي*

السعيد بوطاجين

صوت الأحرار 07 مارس 2013

أجد رواية "رقان حبيبتي"، للكاتب الفرنسي "فيكتور مالو سيلفا" من الإثارة بحيث يجب علينا أن نحييه بكل حواسنا ووردنا، ليس لأنه كتب مؤلفا مختلفا جدا من جانب الأشكال السردية ، مقارنة بنصوص أخرى، أو لأنه اشتغل كثيرا على البناء و تعدد الأصوات، بل لأنه، إضافة إلى هذا وذاك، اتخذ موقفا شبيها بموقف الفيلسوف والأديب جون بول سارتر في كتابه "عارنا في الجزائر"، وأي عار! 
الرواية ذات منحى إنساني يدين التجارب النووية هنا وهناك،لأنها من فعل الشيطان وأحفاده، من رقان إلى تامنراست إلى الأهقار إلى هيروشيما وتشيرنوبيل، وهي في نهاية الأمر، عمل جنوني يلغي عن الإنسان صفاته الإنسانية، رغم ادعائه التحضر والدفاع عن الحريات وحقوق هذا الإنسان. 
لقد عملت الآلة العسكرية الفرنسية، خلال وجودها في الجزائر على إذلال السكان الأصليين و التراب والرمل والشجر والحيوان، وتلك مسألة واضحة، بيد أنها اغتالت قسما كبيرا من الجنوب بفعل الإشعاعات التي لن تنتهي تأثيراتها قريبا، وقد تستغرق مئات القرون. ما يعني أن فرنسا الاستعمارية ستظل مصرة على الجريمة، مهما بدت بعيدة في عيوننا، أو في الظاهر، إلا أنها حاضرة بأثر رجعي، ولن تغادر البلد غدا مادامت مقيمة تحت الرمل وفي جهات أخر. دفن حطام التفجيرات، وكل الآلات التي وجدت قرب حموديا : الطائرات ، و الدبابات و الرافعات ووسائل الاستشعار، على عمق مترين تقريبا، حتى لا تنتقل العدوى إلى ما وراء البحر، وعلى الرمل أن يقاوم التسريبات التي تصيب الناس و البيئة، اليوم وبعد أجيال أخرى ستولد مشوهة ومهددة بالخطر النووي القائم. ذاك ما يقوله الكتاب تأسيسا على الأرشيف. وعلى ذاكرة أولئك الذين كانوا شهودا، وعلى وثائق علمية خاصة بآثار القنبلة الذرية وإشعاعاتها .
ما قدمه "فيكتور مالو سيلفا" في نصه الراقي، بصرف النظر عن جوانبه الفنية و الجمالية المهمة، هو بحث متقدم في تاريخ الجزائر وجغرافيتها وحربها وصحرائها المريضة بالحضارة الفرنسية، وعلى مسافة مئات الكيلومترات الموبوءة بالشيطان النووي الذي لم ننتبه بعد إلى مخلفاته الفظيعة علينا، الناس و البيئة ومكوناتها. من ذرة الرمل إلى أصغر كائن يؤثث الطبيعة، طبيعتنا التي تخبئ الإعاقة و الموت والتشوهات التي لا حصر لها، الشيء الذي لا يعرفه إلا من يعرف ألم الجنوب بعيدا عن السياحة العمياء. 
الرواية هذه تنقل حكاية مأساوية عن البلد برمته : التعذيب و السخرية و الاستعلاء و القتل، وإن كان الكاتب قد ركز أكثر على الجنوب الذي شهد كل الاجتهادات الذرية بأنواعها، قبل الاستقلال و بعده، إلى غاية منتصف الستينات، بالعودة إلى طبيعة الاتفاقيات التي تنص على الاستقلال الجزئي للبلد، ومن ثم السماح للمستعمر بالاستمرار في إنتاج الجريمة المعلنة، تحت الأرض وفي الفضاء، أمام أنظارنا وأنظار العالم الحر الذي لم يحرك ساكنا .
أتصور أن هذا الكتاب الشجاع من أجمل ما ألف عن التجارب الذرية وأثارها التي لا يمكن تخيلها، إنها جريمة شاملة ومستمرة، رغم سكوتنا نحن مثقفين وكتابا وجامعيين وإعلاميين وفنانين و أنصار البيئة. لا زال رمل الجنوب يقتل خلف صمته المهيب، وسيقتل ما لم يكن هناك حل لما وضع في هدأته، على بعد سنتيمترات قليلة من السطح المستعد للكشف عما يخبئه الرمل في جهة حموديا برقان، وفي ناحية تامنراست و عين امقل والأهقار، يحمل وجهين، وجهنا القديم والوجه العسكري الفرنسي الذي سيظل وجها عسكريا له ماضيه ومنطقه.
ما حدث في الصحراء الجزائرية، من منظور المؤلف شيء يتعذر تجاوزه أو نسيانه بالتقادم من حيث أنه موجود وممتد إلى زمن غير معلوم، لم تجر فرنسا تجارب على حدودها، و في جغرافيتها الخاصة بها، بل في أراضي الآخرين الذين لا قيمة لهم، وهم يدفعون اليوم ثمن ارتقاء هذا البلد إلى مستوى القوى النووية الكبرى، بتستره الشامل على آثار ما زرعه من أوبئة في رمل كان صديقا للسكان، و للتوارق الذين كانوا يجوبون الصحراء أحرارا، قبل أن يفقدوا الطمأنينة لأجيال، قبل أن يلطخ الماء و التمر و الزرع والجو، قبل أن تنقرض كثير من الكائنات التي كانت تعيش في أرضها آمنة، قبل أن تفجعها القنابل الذرية الكثيرة. 
"رقان حبيبتي" قنبلة أدبية من العيار الثقيل لأنها إدانة صريحة، من كاتب فرنسي، لممارسات استعمارية بحاجة إلى قراءات لا تنهي. وهي في جوهرها، بحث مضن عن الحقائق التي طمستها السياسات المختلفة، بتواطؤ المؤرخين والإعلاميين و الاختصاصيين والمثقفين. لذا، لا يمكن أن نتوقع لها رواجا في البلدان المعنية بهذه الجريمة التي لم نولها اهتمامنا، رغم أنها وباء يلاحقنا ويلاحق أحفاد أحفادنا، وأحفاد اليربوع و الجمل و النخلة والماء. هاهو موضوع أدبي يستحق عشرات الأعمال الإبداعية .قبعة مرفوعة للسيد فيكتور مالو سيلفا، كاتبا إنسانيا يوقظ الضمير البشري، و ينبهنا، فوق هذا، إلى قضايانا التي ظلت على هامش خياراتنا الأدبية لوقت طويل .

تعليقات

  1. ويبقى السؤال مطروحا دائما حو شخصية الكاتب اوالاديب والروائي الفرنسي مؤلف رواية رقان حبيبتي.
    هل هو حقا عسكري فرنسي عاش فترة التجارب النووية الفرنسية وكان شاهد عيان عليها.
    ام انه لم يكن عسكريا. ولم يزر المنطقة او يعش فيها ابدا. وإنما كتب روايتها بالاعتماد على الأرشيف الفرنسي والقصص والروايات واستماع بخياله وموهبته ان يتقمص شخصية ذلك الضابط العسكري الفرنسي. وحل محله لمكتب هذه الرواية القنبلة التي فجرت اسرارا عسكرية غانمة وهمية. اخفتها فرنسا ....

    ردحذف
  2. محمد بوداني .

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح