السبعينية بوصفها نسقا متجددا / عبد القادر رابحي


السبعينية بوصفها نسقا متجددا




عبد القادر رابحي

هل ثمّة من داع إلى العودة للتفريق بين ''مفهوم السبعينية''، كما تحدثنا عنه في مقالات سابقة، وبين ''مرحلة السبعينيات''، كما يفهمها الجميع، وكما يصر بعضهم على الخلط بينها وبين ''السبعينية'' من خلال اعتبارهما، صدقا أو خطأ، جيلا أدبيا تميزت به مرحلة السبعينيات، أي الفترة الفاصلة بين ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، وطبعتها بطابعها الفكري والإيديولوجي والسياسي في تلك الفترة؟
وهل ثمة من سوء فهم يدفعنا إلى توضيح ما هو واضح أصلا، وهو أنه''
*لا ''السبعينيةُ'' بالمفهوم الذي سعينا إلى تفكيك بعض بنياته الثقافية، من خلال التعرض لبعض مضمراتها في مقالاتنا السابقة، هي جزائرية كما يريد لها بعضهم أن تكون، ربما لقصور في تحديد المعطى المعرفي الذي انبنت عليه على المستوى العالمي،
*ولا مفهومُ ''مرحلة السبعينيات'' أو ''جيل السبعينيات'' هي جزائرية خالصة، كما يفهم من يعتقدون أنهم حراس معبد التاريخ، ورعاة انتظار إعادته لنفسه تحت طلب إلحاحي، من رغبتهم المصلحية الباطنة.
إن ''السبعينية''، التي قصدنا، هي أوسع من أن تكون جزائرية في نشأتها وتكوّنها وصيرورتها المتجددة عبر الأزمنة. وهي كذلك أعمق من أن تتحدد بمحدودية ما أنتجه ''جيل السبعينيات'' في الجزائر، من خطاب أدبي أراد من خلاله أن ينقل أصداء ما سمعه من حراك ثقافي وفكري وإيديولوجي عالمي، وحاول أن يعكس مفاهيمه المختلفة في خطابه الأدبي بصورة مُختلَفٍ حولها إبداعيا وفكريا وجماليا. والاختلاف هنا ليس عيباً ولا نقيصة. ذلك أن هذا الفهم إنما يريد أن يحصر مفهوم ''السبعينية''، الواسع المتشابك المتعدد، في ما يسمّى ''التوجه اليساروي الاشتراكي''، الذي ساد سياسيا في فترة السبعينيات في الجزائر خاصة، وامتدت بعض آثاره إلى بعض نصوص مرحلة ما بعد السبعينيات وإلى أنساقها الثقافية المضمرة. في حين أن ''السبعينيات'' لم تكن كذلك في أنساقها الثقافية المضمرة، وما احتوته من تعدد في الأطروحات الإبداعية والفكرية والمعرفية. فثمة كتّابٌ ومبدعون ونقاد مختلفون في المنظورات السياسية، وفي القناعات الإيديولوجية إلى درجة التناقض، لكنهم ينتمون، زمنيا ومرحليا، إلى جيل السبعينيات، وينظر كل واحد منهم إليها، إلى هذه المرحلة، بمنظاره الفكري والإيديولوجي والسياسي. هذا واقع لا يمكن أن ينكره جاحد. وهنا، وجب القول إن هذه المرحلة الزمنية من تاريخ الجزائر الثقافي والفكري، كما كل مراحله المتعاقبة، جديرة بالدراسة الآن، وفي المستقبل، أكثـر من أي وقت مضى، لأنها ليست ملكا لأحد، لا من هؤلاء ومن هؤلاء. وليس لأحد حق الوصاية عليها والحظر المعرفي على من يريد دراستها وفهم مضمراتها.
إننا، ونحن نحاول تجاوز كل الإشكالات الظاهرة المتعلقة بفترة السبعينيات الأدبية في الجزائر خاصة، وما أفرزته من قيم متعددة في توجهاتها الفكرية والسياسية والإيديولوجية، إنما نريد أن ننبّه إلى ما لا يريد بعضهم سماعه والإصغاء إليه، لأسباب لا نعلمها، وهو أن مفهوم ''السبعينية'' نسق فكريٌّ ومعرفيّ تجلّى في ما أنتجته حركة التاريخ المعاصر في القرن العشرين من صراع سياسي وثقافي، عكَسَ بواطن المعركة الفظيعة التي كانت تدور بين الأفكار الفلسفية وقدرتها على الهيمنة على بعضها البعض، في مرحلة تاريخية شهدت تحولا رهيباً على مستوى الحراك الاجتماعي المطلبيّ، الذي لم يكن مرتبطا مبدئيا بإيديولوجيات هذه الأفكار الفلسفية، وإنما كان مرتبطا، أصلا، بفكرة التحرر الوجودي من الاستعمار، بوصفه نسقا كولونياليا قامعا الذات، وقاتلا لطموحاتها، ورافضا لرغبتها في الحياة.  إن ''السبعينية''، بهذا المفهوم، ظاهرة عامة موجودة في الأدب الجزائري والليبي والمغربي والسوري خاصة، واليمني بصورة أخص والتونسي بدرجة معينة، وهي كذلك موجودة في الأدب العراقي بصورة فاضحة، وذلك على الرغم من اختلاف التوجهات السياسية لهذه الدول، واختلاف أطروحاتها الإيديولوجية ومشاريعها الثقافية.
وإذا كان ليس ثمة من رابط ظاهر بين هذه أنظمة الدول وبين آدابها ونقدها، فإن المساءلة الفكرية الواعية والمتبصرة بالحراك التاريخي والصراعات السياسية، إنما تدلّنا إلى مستويات ثقافية ومعرفية متعددة لترابط هذه التجارب فيما بينها، نظرا لما خضعت له من تأثيرات خارج- وطنية انسربت في المساقات الإيديولوجية للمشاريع الثقافية التي كانت أنظمة هذه الدول تحرص: 
*إما على تبنّيها واستنباتها في تربة مشاريعها، نظرا لتطابق رؤاها وأهدافها معها،
*أو على المحافظة عليها وتنمية وجودها في الظل، نظرا لتقاطعها المصلحي معها،
*أو على رفضها تماما من خلال تغييبها، ومن ثمة مناداتها العكسية إلى التضايف المعرفي معها في المأدبة الثقافية المضمرة، التي لم تكن تنهج الخيار الثوري، سواء كان اشتراكيا أو ليبراليا أو رجعيا.
لقد لعبت التمركزات الإيديولوجية للأنظمة السياسية دورها المناط بها في ترسيخ تابعية الفعل الثقافي لمشاريعها، وذلك إما بصورة ترحيبية تتبنى من خلالها الترددات الثورية التي كانت تحملها الكتابات الأدبية أو النقدية، أو بصورة إقصائية أدّت إلى تفخيم الأيقونات الاختلافية في مستور القول الأدبي عند المثقفين المعارضين، كما كان الحال في مصر أو العراق على سبيل المثال لا الحصر، بحيث تحوّل الخطاب الأكثـر فاعلية في تطوير العمل الأدبي إلى أداة تسلطية قمعية تجلّت من خلاله الرؤية الفوقية للسلطة الثقافية، من خلال رفض الاختلاف وتكريس الإملاءات بوصفها كأداةً آمرةً لذاتٍ مبدعةٍ، سرعان ما تحوّلت إلى أُذن إصغائية فاعلة في ترديد المسموع الدائم.
والحاصل أن الممارسات التحديدية التي كانت تنتهجها المشاريع الثقافية الرسمية، تجاه الخطاب الأدبي والنقدي، أدت إلى خلق مستويات عليا من التدجين المعرفي يعتَقِدُ فيها المثقف المعارض أنه معارض بما يتيحه له موقفه الإيديولوجي، في حين أنه لم يكن أكثـر من إلكترون سابح في الفضاء الثقافي للسلطة، مُتحكّمٍ في منطلقات خطابه وفي محدّداته الباطنة وفي مآلاته المعروفة مسبقا. وهو في هذه الحالة لم يكن في أحسن الأحوال أكثـر من مثقف خاضع للرؤية المتمركزة، ولا أكثـر من عضوٍ ساكن في هامشها الرّيعيّ المعلّب بالفكرة التشاركية المغلوطة التي يحملها المثقف عن نفسه، وعن العالم وعن الآخر.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح