جحود عظيم أن ننسى الطاهر بن عيشة / حبيب سايح
جحود عظيم أن ننسى الطاهر بن عيشة
حبيب سايح
صوت الأحرار: 14 مارس 2013
لا أعرف واحدا اخترق زمن ثلاثة أجيال جزائرية، لما بعد الاستقلال، وحاز احترام كتابهم ومثقفيهم وإعلامييهم، كما نال على الدوام تقديرهم، على اختلاف حساسياتهم
الثقافية والأيديولوجية، مثلما عرفت الطاهر بن عيشة.
الثقافية والأيديولوجية، مثلما عرفت الطاهر بن عيشة.
هذا المثقف الموسوعي والكاتب الرصين، الذي أسهم في مختلف الجرائد والمجلات الجزائرية بمقالات في الفن والحضارة والثقافة والتاريخ والأدب لأكثر من نصف قرن متصل.
إنه المثقف العضوي المحنك الذي، ربط همومه بالمشروعات الوطنية والقومية والعالمية التقدمية. العدو اللدود للهيمنة الإمبريالية وللرأسمالية الهمجية وللصهيونية العالمية وآلتها الإسرائيلية البربرية في فلسطين.
والإعلامي الميداني المرموق، الذي غطى الجزائر وأجزاء من إفريقيا وآسيا الوسطى بريبورتاجاته التلفزيونية الكبرى عن الإسلام والحضارة العربية الإسلامية.
والمجادل العارف، الذي شهد له خصومه، وهو اليساري ذو النزعة العلمانية، في أشهر مناظراته مع التيار الإسلامي، بأنه أقدر من يملك الحجة على ما يجادل فيه من التاريخ الإسلامي ومن سياسة الحكم في إطاره، ولكن أيضا من مسائل الاجتهاد والفقه والكلام، بما أنه من حفاظ القرآن الكريم ومن مالكي أشهر المتون والمدونات والعارف بها.
فإنه يكاد لا يبقى واحد من هذه الأجيال الثلاثة، أسعفه الحظ على لقاء الطاهر بن عيشة أو مخالطته أو معاشرته، لا يحتفظ له بتذكارات زاخرة بالمحبة وبالإعجاب؛ لحكمته وصلابة مواقفه وثبات آرائه ولعمق ثقافته التقليدية ورسوخ أفكاره في ما هو حداثي وعقلاني.
يحدثك عن مقدمة ابن خلدون، الظاهرة السوسيولوجية الفريدة المفارقة لعصر انحطاطها، وعن سفره الضخم: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر. وقبله عن ابن رشد في: تهافت التهافت، معرجا بك على الغزالي. أو في: بداية المجتهد ونهاية المقتصد. وعن حي ابن طفيل وطوق ابن حزم، وعن تاريخ الأندلس وعن عائشة الحرة، وعن هارون الرشيد وعن أبي نواس، وعن ابن عربي، وعن المالكية والحنبلية وعن الشيعة والخوارج وعن السنة، وعن إخوان الصفا والقرامطة، وعن الأمويين وعن دهاء عمرو بن العاص في التحكيم أمام أبي موسى الأشعري وعن العباسيين والحجاج الثقفي وعن نكبة البرامكة، وعن سقوط الأندلس وزفرة أبي عبد الله وعن غرناطة، كما عن بغداد ودمشق وسمرقند وتمنطيط وتومبوكتو وغاوة، وعن أحمد باي والأمير عبد القادر وحمدان خوجة، وعن سيرة بني هلال، في الجزائر، وبني سليم أشقائهم في تونس، وعن دسائس حرب التحرير، وعن عبان رمضان وشعباني، وعن لابلويت وعن عميروش وعن السفاحين ماصو وبيجار وغودار، وعن بومدين، وعن الربيع القبائلي، وعن اللغة العربية والأمازيغية والفرنسية وتاريخها، وكأنه عايش كل فيلسوف وكل مفكر وكل حاكم وكل فاعل في الأحداث التاريخية، وقرأ كل ما كتب في عصر كل منهم، أو أسهم في صنعه، وهو ما كان لا بد فعله منذ أن عاد من الزيتونة إلى الجزائر العاصمة، في نهاية الأربعينيات، ليستقر فيها فيكون شاهدا وفاعلا في النضالات السياسية والنقابية، ثم في المقاومة السرية ولاحقا في حرب التحرير، ثم في ما أعقب الاستقلال من أحداث على رأسها انقلاب التاسع عشر جوان خمسة وستين، وفي طرح مشروع البناء الاشتراكي الذي كان شاهد عيان على انهياره، وهو لا يزال يحمل ندوب آثاره في قلبه.
إنه حديث تذكار مقتضب عن صديق عزيز جدا وأحد الآباء الروحيين لجيلي بما أخذناه عنه من تواضع ونزاهة ونقاء ومقاومة للظلم.
للتذكير، فإن الصديقين الإعلاميين والكاتبين، من الجيل الثالث، سعيد حمودي ورشدي رضوان، كان لهما سخاء الاحتفاء بالطاهر بن عيشة وتكريمه في ندوة المنتدى الجزائري للإعلام الثقافي الأولى يومي 1و2 مارس 2010؛ ليظل رفيع
المقام بيننا؛ فإنه جحود عظيم أن ننسى رجلا جزائريا فذا مثله.
المقام يعبر
ردحذف