من رواية حب في خريف مائل / سمير قسيمي





من رواية حب في خريف مائل / سمير قسيمي



يسعدني أصدقائي أن أعلمكم أنني أنتهيت من كتابة رواية جديدة قررت أن يكون عنوانها "حب في خريف مائل"، إلى حين صدورها والاحتفاء بها معكم أنشر هطا المقطع من الفصل الأول منها.. بكل متعة أحبتي


أدركت حينها أن علي التريث واحتساب كلماتي، أما "لم؟" فعليك أن تصبر علي إلى حين أشرح لك أمرا كنت قد أرجأت شرحه في البداية. لعلك تذكر أنني أجلت الحديث عن حياتي، ولعلني أزعجتك باستعمالي لكلمات فضفاضة في وصفها، قد تعني لك كل شيء من دون أن تعني شيئا محددا. ولكن كما ترى فقد حان الوقت لتعرف قصتي وتفهم ما الذي جعلني أرتبك حين قالت المرأة "تعلم لم يا قاسم. فبالفعل اسمي قاسم وعلى الورق قاسم أمير. وددت لو أكذب عليك الآن وأقول لك أن أبي سماني كذلك حبا في قاسم أمين.. تعرفه أليس كذلك؟: الرجل الذي تحدث عن المرأة وقال بضرورة تحريرها.. وددت أن أقول لك ذلك ولكنني سأخبرك بالحقيقة لا غير، فوالدي كان فلاحا ولا شيء كان ليجمعه بقاسم هذا إلا الاسم وربما الرغبة في تحرير المرأة، ولكن لا أعتقد أنه كان من أجل تحريرها يملك نفس الطريقة ومع ذلك فقد كان مثله في تفانيه في هذه القضية، بدليل أنه قتل وأنا في العشرين على يد جار لنا ادعى دفاعا عن نفسه في المحكمة أنه وجده في فراشه من دون أن يضيف شيئا آخر. وهنا لست مسؤولا عما قد تفهمه أنت الآن من تصريح الرجل.

ووقتما قتل أبي كان قد مضى على رحيل أمي سبع سنوات. ولست هنا أعني أنها توفيت ولا أنها تطلقت من أبي. ففي أحد الأيام اختفت وثيابها وحليها وحقائبها، وعبثا حاول أبي البحث عنها. أحفظ في رأسي عشر روايات أخبرت بها عن اختفائها، ألطفها أنها فرت مع عشيق لها وأبشعها أن أبي قتلها وأحرق جثتها ثم طحن عظامها ورمى السحيق في أحد الأودية. وهي كما ترى روايات قد يبحث من يهمه الأمر في صدقها، أما أنا فاكتفيت بحقيقة واحدة لا غير، وهي أنها رحلت وأنى تكون اليوم فلا بد أنها سعيدة.
أعتقد أن مقتل أبي ما جعلني أضع قدمي على دواسة سيارتي البيجو لأنطلق بها. فكرت في البداية أن أسيح بها وأعود لاحقا، ولكن فكرة عودتي إلى حيث لا أحد لم تثرني بالقدر الكافي لأرفع قدمي عن الدواسة وأعود أدراجي، حتى وجدتني في الثنية التي بقيت فيها إلى اليوم.
قررت أن أعيش سائحا وعشت حياتي كذلك بالفعل. فلطالما امتلكت فهما بسيطا للحياة، وحاولت قدر الإمكان أن أُعمل هذا الفهم في حياتي. لقد أدركت أن الحياة مهما بلغت من ترف فليست سوى رحلة قصيرة في اتجاه واحد، ومن البلادة حقنها بما يجعلها أقصر أو حتى بما يجعلنا نفوت ما فيها رغبة في الحصول على ما ليس فيها. أدركت أن الإنسان إذا تمكن من تحييد مشاعره فلاشيء بعدها يكون قادرا على منعه من ممارسة حياته كما خلق لها، فالحزن مرتبط بالألفة، والكره مرتبط بالحب، والشبق بالكبت والخيبة مرتبطة بالأمل واليأس مرتبط بالطموح. إدراكي لهذه الحقيقة جعلني أوقن أن أجمل حياة يمكن أن يعيشها المرء هي الحياة البسيطة: لا تملك ما لا تستطيع حمله أو ما لا يقدر على حملك.. حياة تضمن لك القدرة فقط على البقاء حيا لتمارس ما اخترته من غوايات. ولقد اخترت أن تكون حياتي كذلك بالفعل.
مع ذلك، عندي اعتقاد راسخ أنني لم اختر حياتي، فهي من اختارني في الحقيقة حين هيأت لي الظروف-كل الظروف- لأتعرف عليها. ففي ذلك اليوم الذي انطلقت فيه بسيارتي لم أكن مهيئا للسفر فما بالك للذهاب بلا رجعة. كل ما جال برأسي حينذاك أن أقطع بعض المسافة وأعود إلى المنزل لأتلقى العزاء وأدفن والدي، فقد احتجت لبعض الوقت فقط لأتقبل فكرة يتمي وأتعامل معها.
أذكر أنني وقبل أن أركب سيارتي سرت لنصف كيلومتر على قدميّ حتى بلغت تلا اعتاد أبي الجلوس فيه. وكان سبب جلوسه هناك أنه يطل على القرية ومن عليه كان بمقدوره أن يرى أي شيء يحدث فيها.

يمكنك الآن أن تعرف أن اسم قريتي هو "عين طير الزين". قرية تسكنها عائلة واحدة. لم يكن أبي فردا منها، وما إقامته هناك إلا لأنه صاهر أحد أفرادها. ولولا يقيني أنه كان أميّا لصدّقت الإشاعة التي زعمت بأن أبي كتب بيت شعر على صخرة اعتاد الجلوس عليها في التل. يزور القرية اليوم الكثير من السياح. يخبرهم أهلها استبقاء لهم بقصص خرافية عن سبب تسميتها أو بقصة رجل قتل زوجته وفقد ذاكرته بعدها، ثم توهم أنها اختفت فحسب، وأنه هام أعواما بحثا عنها من غير طائل، وحين أعياه البحث كتب على صخرة التل: 
نزلت بطير الزين أطلب ريحها أما عاد طير الزين وادا لمن أهوى
وحين فرغ من كتابة هذا البيت فارق الحياة.

وقوفي هناك جعلني أدرك حجم العالم الذي كنت أعيش فيه. وفي لحظة شعرت بالضيق حتى لم أدر كيف ركبت سيارتي وبلغت بها سور الغزلان. وكنت على وشك العودة حين استوقفني أحدهم لأقله إلى البويرة بمقابل. وجدت الأمر ممتعا، بحيث ملأت خزان الوقود بنصف ما أعطاني واحتفظت بالباقي. وهناك سألني آخر أن أقله إلى الثنية ففعلت، حين بلغت تلك المدينة خطر لي أن مسألة العودة إلى قريتي لم تعد أمرا مقدرا.. وكان كذلك بالفعل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح