الأنــهــار تـسيــر فـي اتــجـاه البحــيـرة / حــمري بــحري



الأنــهــار تـسيــر فـي اتــجـاه البحــيـرة




حمري بحري


ليس هناك اليوم حسب زعمي ، ما يسمى بالأجناس الادبية ، نظرا للتداخل الحاصل فيما بينها ، بحيث تلتقي وتتعانق في فن الرواية ، إذ تشكل وهي مجتمعة ، مساحة شاسعة للقول ، لم تكن متاحة من قبل ، وهي اليوم - اي الرواية - اشبه ما تكون بتلك البحيرة الكبيرة ، التي تصب فيها جميع الانهار ، بكل روافدها وحتى الشعر اصبح واحدا من هذه الروافد ، التي تمنح العمل الروائي الكثير من لغته الصافية ، ومن هذا المنظور اقول : ان النثر بشكل عام ، مدين للشعر فيما وصل اليه من تنوع ، عن طريق الشعراء المعاصرين ، الذين شحنوا الكلمات بقرائن لم تكن موجودة من قبل ، فصار النثر يتنفس انفاس الشعر فيما نكتبه اليوم . ويبقى النثر فن المستقبل ، لا شك في ذلك ، لأنه يتيح مساحة هائلة لحرية القول ، لا يتحها الشعر لمن اراد ذلك ، الا في حدود الالتزام بقواعده المعروفة ، سواء في القصيدة العمودية او الحديثة ، ثم ان الشعر دخلت عليه الكثير من المسموعات ، التي ابطلت مفعوله كفن جماهيري ، يعتمد على السماع اكثر مما يعتمد على القراءة ، التي تكون بين الفرد ونفسه ، وفي هذه الحالة ، نادرا ما تحقق القصيدة ذلك التفاعل ، الذي ينشأ بين الشاعر ، وقارئ الشعر ، وهذا يعود لقدرة الشاعر ، الذي يستطيع أن يضعك في حضرة الشعر .
ما من كاتب وهو في بداية الطريق ، إلا وحاول ان يكتب الشعر ، وهو يشتعل عاطفة ، مدفوعا بقوى داخلية لا يستطيع ردها ، فيكتب ما يكتب ، واضعا الغليان الداخلي على الورق ، وهو لا زال يتعلم اوليات اللغة من نحوها وصرفها ، وليس له اكثر من بضعة مئات من المفردات ، محاولا استثمارها في كتابة الشعر الذي لا يقرأه في البداية الا للمقربين جدا منه ، فإن لقي استحسانهم ، تجرأ في المرات القادمة للكشف عن خربشته للأخرين ، ثم يسترسل مستمرا في كتابة الشعر ، من يوم لآخر ، وهو كالقدر (بكسر القاف) يغلي بمشاعر لا حصر لها ،محاولا ادخالها داخل كلمات لم تعد تقوى على حملها ، اذا ما ساقها شعرا ، وهنا لا بد له من البحث عن وسيلة اخرى تتسع لحمل رؤاه ، والوسيلة موجودة في اللغة ، التي ترافقه في القبض عن الجانب الملتهب والضاج ، وحتى المظلم من الحياة ، والانتقال الى تجربة اخرى ، لم يعد التعبير فيها عن ( حالة ) ، بل صار التعبير فيها عن ( حالات ) شتى .
هكذا يتم الانتقال من كتابة الشعر ، الى كتابة الرواية ، ومعظم كتاب هذا الفن الكبار ، بدأوا بكتابة الشعر آملين ان يتحقق معهم ما كانوا يصبون اليه ، فتكشف لهم أثناء السير ، أن بعضا من صبواتهم لم تتحقق معهم ، فانتقلوا الى كتابة الرواية ، مستأنسين بروح الشعر ، الذي هو سمة الأصالة في كل الفنون ، والعشق هو ذلك الدافع السحري الذي يدفعنا للكتابة ، كما يدفعنا للقول : إذا لم تكن عاشقا ، فلن تكون شاعرا ، وإذا لم تكن شاعرا ، فلن تكون روائيا او ناقدا ، ولا مبدعا بشكل من الأشكال .
عندما ينتقل الشاعر من كتابة الشعر ، الى كتابة الى كتابة الرواية ، فهذا لا يعني أبدا ، أن الشاعر لا يحب الشعر ، وإنما يسعى ليخوض تجربة جديدة في حقل الكتابة ، آملا ان يتحقق معه ما كان يأمله من هذه التجربة ، تاركا انفعالاته ، التي كانت لا تستطيع ان تعبر الا عن حالة فريدة ، في حين ان الرواية تستطيع ان تعبر عن حالات ، تتداخل فيها صور الخير والشر ، من خلال صراع الانسان مع اخيه الانسان ، ولكن هذا الانتقال ، لا ينجح الامع المبدعين المتميزين القلائل من الروائيين ، الذين لا تخلوا كتاباتهم من روح الشعر ، الذي يبقى حاضرا في كل الفنون ، اليوم وغدا ، والى الف سنة مما نعد .
صحيح ان الرواية فن الحاضر والمستقبل ، لما لها من القدرة على استقراء الماضي والحاضر ، ولما لها أيضا من قدرة على تصوير ما هو مبهم في اذهان الناس ، وتضعهم في واقع غير متوقع ، وتفتح أذهانهم على ما لم يكن في حسبانهم ، وتغرس فيهم بذرة الوعي ، من خلال وعي الكاتب الذي يشحذ ذهنه مرات ومرات ، وهو يحرك شخوصه ، التي تتحرك في أزمنة وأمكنة تتقارب وتتباعد في الوقت ذاته ، ومن هنا يمكن القول ، ان الرواية فن الوعي المطلق ، غير انها وهي تتحرك باتجاه المستقبل ، يبرز في طريقها فن جديد اسمه السينما ، وقد استغل كل ما حققته الرواية عبر مسيرتها ، مضيفا اليها ما لم يكن عندها ، ففي الفيلم نجد الكلمة والصورة والموسيقى والرقص والغناء ، وكل الفنون الأخرى ، وهو ما تعجز عنه الرواية كفن امتاع ، وصار الكثير من الناس يكتفون بمشاهدة الأفلام والمسلسلات والأشرطة العلمية سواء عن طريق دور السينما أو عن طريق شاشة التلفزيون وهم يعدون بمئات الملايين عبر العالم ولا يلتفتون الى قراءة الرواية بشكل المطلوب ، وخاصة في العالم العربي ، الذي تكاد تصل فيه المقروئية الى الصفر ، تضاف الى هذا الأمية بمفهومها القديم ، وبمفهومها الجديد ، الذي نعني به الأشخاص الذين يحسنون القراءة ولا يقرأون ، والخلاصة ان فن المستقبل يكمن في السينما التي تعتبر بحق الفن الجماهيري الأول الى جانب كرة القدم .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح