الحداثة.. وإفراغ النقد من القيمة / حبيب مونسي



 الحداثة.. وإفراغ النقد من القيمة / حبيب مونسي


لا شك أنّ التفكير النقدي يمتح مادته من الوسط الذي يقوم فيه، ومن طبيعة اللغة التي يتفحّصها، ومن الأساليب التي يرصد فيها التحول والتّنوع، ومن القيم الجمالية التي يحاول محاصرتها ليدرك فيها الأسس الذّوقية والفلسفية التي تفرزها، وقد يتجاوز الأثـر الذي يحاور إلى كافة المنطلقات الإبستمولوجية التي يتأسّس عليها الخطاب الأدبي. والأخطر من ذلك، في نظر النقد الجديد، المحافظة على نمط من الاستقرار السياسي والاجتماعي لدى طائفة من الناس، وكأنّه بذلك يوطّد لنوع من الأطر الشكلية التي يتحرك خلال جداولها كل إفراز إبداعي وفكري، قبل أن يصبّ في قوالب الذّوق الجاهز المستتبّ عند هذه الطبقة أو تلك. ويرجع هذا الفعل، الذي تقوم عليه المؤسسات التعليمية والهيئات الأخلاقية، إلى إرادة غير معلنة، تجد مصداقيتها عند كلّ مبدع يجاري الإطار العام ويخلص له.

يبدو أنّ النقد الجديد، في شكله القائم وراء التّصور الوضعي الذي كرّس الاستقرار والثّبات، محاورة صريحة مع الآثار، تتجاهل المحظورات، وتتخطى النواهي، إلى المكاشفة. لأنّها لا تهدف، أبداً، إلى تأسيس علم، ولا إحقاق موضوعية، بل لا ترضى لنفسها إلاّ أن تكون خطاباً على خطاب، تحتل فيه درجة اللغة الواصفة؛ ما دام النقد الجديد شيئاً آخر: ''غير حديث بإحكام باسم مبادئ حقيقية''. لقد حتّم هذا الفهم إعادة صياغة وظيفة النقد، انطلاقا من الطبيعة الجديدة للّغة، فقد غدت مهمته لا تنحصر، مطلقا، في اكتشاف الحقائق وإنّما الصّلاحيات فقط. أي تجاوز كون ''القول'' حقيقيا أو مزّيفاً، إلى صالح أو غير صالح، بمعنى: ''أنه يشكّل نظاما متوافقا من العلامات''. وتتكشّف خطورة هذه الأقوال، والتي أثارت حفيظة النّقد الجامعي، وحرّكت ردود فعله العنيفة، من خلال حركتين فاعلتين في صلب التّفكير الفلسفي والأدبي على صعيد واحد، تستبعد كلّ حكم ''قيمي''، سواء استند إلى مرجعية دينية أو فلسفية، ولا تفسح له مجالا في نشاطها. ولأجل صدّه وإبعاده، تلبّست بالوصفية المنافية، حتما، للمعيار. مادام إقصاء ''القيمة''، واستبعاد الحكم القائم عليها، لا يترك للنشاط النقدي سوى اللغة الواصفة المحايدة، التي لا تمتلك أداة الحكم ولا مرجعيته، وهي حركة بلغت مع ''موريس بلانشو'' شأوها البعيد.

لقد رفض ''بلانشو'' كل تعال للنقد، والذي يعتبره ردّة نحو ''القيم''، وهو رفض شارك فيه التاريخانية والبنيوية. فهو لا يجد مهمة أسمى للنقد من ''صون الفكر وتحريره من مصطلح القيمة''، ومن أي رجوع نحو الحقيقة. وكأنّ تاريخ النقد لا يحمل من آثار القهر سوى استبداد القيم، وسطوتها، وجنايتها على الفكر والإبداع، وهو تصوّر يبعث على الحيرة والاندهاش. ولا تزول عن ذهن الدارس ظلالها، إلا إذا أدرك أن ''بلانشو'' لا يقصد القيم الجمالية وحدها، وإنّما كل ''قيمة'' أرادت أن تركب الأدب وتجعل إنجازاته دعاية لها. وتلك حقيقة قد تفهم في ظل الدّعاية الألمانية والستالينية، إبّان الحرب العالمية الثانية، ولكنّها لا تستمر إلى ما بعد البنيوية، لتحارب خاصيتين قام عليهما التّصور الوضعي: الحقيقة والموضوعية.

إن إلحاح ''بلانشو'' على نبذ القيّم، لا يمكن فهمه إلاّ من خلال اعتباره تقليداً ''نتشويا''، يجد لذّته في دوس القيم، فهو الذي يدعونا صراحة إلى الانخراط في ''معركة ضدّ القيم''، حتى تزول الهيمنة الخارجية الذي تمليها اعتبارات لا صلة لها بالأدب، ومن ثم فإنّ كلّ بحث عن الحقائق في الآثار لا يجدي نفعاً. بل على النقد أن يتتبّع آثارها، فيقصيها خارجه.

وإذا تجاوز النّقد هذه ''العقبة'' تحوّل همّه إلى اكتشاف ''الصلاحيات'' التي تجعل القول نظاما متوافقا من العلامات. ويتعذّر فهم ''الصّلاحيات '' بعيداً عن ''الفاعلية النّفعية''، التي أقام عليها ''وليام جيمس '' معيار ''الحقيقة''، وفتح بها عهد ''البراغماتية''. وهو يدرك، حينها، أنّها ستكون مثار دهشة، فهو يقدّمها قائلا: ''أعلم جيداً مدى الاستغراب الذي لابد أن يشعر به البعض حين يسمعني أقول: إنّ الفكرة تكون ''صحيحة'' ما دمنا نعتقد أنّها مفيدة لحياتنا، أمّا أن تكون الفكرة ''صالحة'' بقدر ما تكون مفيدة فإنّكم تتقبّلون ذلك بيسر وسرور''. فالصّلاحيات التي يقصدها ''بارت'' والتي يفسّرها بجعلها القول ''نظاماً متوافقا من العلامات''، لا تبتعد كثيراً عن فكرة ''الصّلاح'' التي يعنيها ''وليام جيمس''، فالنقد يتخلّل الأثـر لفائدة واحدة هي الكشف عن التوافق في العلامات.. أي يصف..  فإذا استبعدنا ''القيم'' وأقمنا المقاربة على ''الصّلاحيات''، فإنّ ذلك لا يعفينا، مرّة أخرى، من إعادة تعريف الأثـر الفني، بعدما حدّدنا تعريف النقد ووظيفته. وفي عبارة ''رولان بارت'' ما يشير إلى كونه ''نظاماً متوافقا من العلاقات''، فإذا حدث التّوافق تمتّ للأثـر أدبيته. وهو استنتاج سريع يحتاج إلى مراجعة، ولكنّه الأصل الذي تقوم عليه كلّ الإضافات اللاّحقة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح