تضايف الأسطورة و الواقع في نص (الحضارة المفقودة) للروائي حبيب مونسي / عبد القادر رابحي




تضايف الأسطورة و الواقع في نص (الحضارة المفقودة) للروائي حبيب مونسي



عبد القادر رابحي

 يلح الروائي حبيب مونسي على محاولته تبئير النظرة التي بإمكان القارئ أن يحملها عن مقطع (الحضارة المفقودة)، حتى ليبدو أنه يريد تأكيد رغبة ملحة في إعادة راهن السرد إلى زمن الأسطورة، أو استدراج الأسطورة بثقلها الوجودي و المعرفي إلى الحضور في هذا الراهن المُختَلَف حوله كثيرا نظرا لتعدد وجهات النظر الإبداعية في تحققه الكتابي، و نظرا لتناقض وجهات النظر النقدية في النظر إليه بمناظير مختلفة فنيا و جماليا. يطرح الحبيب مونسي حضور الأسطورة في راهن السرد من خلال إتاحة الفرصة لما يمكن أن نتناساه دائما في تهويماتنا السردية، و هو فتح باب الحوار بين الرؤية الأسطورية و الراهن المعقد من خلال حوارية متعددة المنابع بين جلجامش بطل للملحمة العراقية القديمة التي تحمل اسمه و بين الإنسان المعاصر في تماهيات رؤيته للعالم مع الذات المتشظية في تصورها لهذا العالم. كما تستند هذه المحاورة على إشكالية العودة بالقارئ إلى معاينة الواقع الأسطوري القديم من خلال اقتراح النظر إلى واقعه الراهن بأعين جلجامشية متميزة في تكبيرها للواقع من خلال المفارقة التي تحملها هذه النظر للواقع المعاصر، و من ثمة في اكتشافها للعيوب التي طالما أرّقت جلجامش و السندباد، و التي لا زالت تؤرق كبار الكتاب الروائيين الذين جعلوا من الأسطورية منبعا تخييليا لهم، فأعادوا تجديد حظوره، و عرفوا كيف يستخلصوا منه الدرس الأخلاقي الذي يبحث عنه الإنسان، و ذلك من دون تكرار، أو نقل أو ترديد. ذلك أن أسطورة جلجامش تحمل من الثراء التخييلي و العمق المعرفي و الجمال الشعري لأنها كتبت شعرا، ما يجعلها من أغنى الأساطير و أوثقها صلة بتاريخ الإنسانية القديم.و دون أن ندخل في التفاصيل، تفاصيل الأسطورة في كل أبعادها ، فإن سِفر الرجل العظيم في تاريخ الشرق القديم، جلمامش، إنما يعكس سفر الإنسان في أقدمية تواجده و تقاطع مغامراته مع الواقع و في منحاه التراجيدي المغلف بالوجود الهش للإنسان في معركته مع الحياة و قواها الخفية. و لذلك، فإن إسقاطها على الواقع بطريقة فنية تستوعب تعقيدات اللحظة و تتجاوز يقينياتها المعهودة المأسورة داخل المسلّمات المتآكلة ، إنما هو انتصار للتخييل و النأي به عن كلّ معطى لحظويّ راكد لا يريد أن يخرج من ثوابته الارتجاعية المعهودة كما تعكسها العديد من الكتابات السردية المتسرعة في وقتنا الحاضر. و لعل هذا ما يميز هذه اللحظة السردية المرتبطة بلحظات أخرى كتبتها الروائي حبيب مونسي من خلال استعادته للبعد الأسطوري بوصفه واقعا أسطوريا لا يبحث عن شحنة غرائبية يُثري بها التخييل الجاف الذي يصيب عادة ممتهني الكتابة الروائية، و إنما تأكيدا لحضور قوي للشخصية الأسطورية كما هو الحال بالنسبة لجلجامش في الأسطورة العراقية القديمة، و بالنسبة للسندباد البحري في حكايات ألف ليلة و ليلة. إن الابتعاد عن البحث عن الغرائبية المجانية طالما أسقط كثيرا من النصوص الروائية في متاهات الحكي غير المتحكم في بداياته و في مآلاته و أبعد أصحابه عن فن الرواية على الرغم من أحقية التجريب و ضرورة تحقيقه في الوعي التخييلي للرواية بوصفها جنسا أدبيا محكوما بشروط و بتقنيات و بمحددات فنية و جمالية.
و لعل هذه النصوص الشذَرية التي يطالعنا بها الأستاذ مونسي تحاول أن تفتح رؤية مغايرة لإمكانية استغلال شساعة المساحة السردية إلى ما يمكن أن يضيف إليه هذا البعد الأسطوري المفقود الذي نتحدث عنه.
كل روائي عظيم هو كاتب أسطورة بالدرجة الأولى، بل هو كاتب أسطورته هو بالدرجة الأولى. و كل الأعمال الروائية إنما هي ملاحم إنسانية من المفروض أن تعكس تاريخ المغامرة الوجودية في بعدها التراجيدي. و كل مبدع إنما هو مشروع (هومييروس) حتّى و إن كان يكتب الـ(ق.ق.ج).
و لعل هذا ما يدركه القارئ المتبصر جيدا و هو يكتشف أن أسطورة جلجامش لا تتوقف عند الرؤية السيرذاتية لبطلٍ هارب من أسر الخيال يريد أن يكون رمزا أسطوريا، بقدر ما تتجاوزه إلى أبعاد ما تمثله مدينة (أورور) وشعبها الخاضع للإرادة الجلجامشية، و كذلك إلى ما ترمز إليه الإرادة العليا (الفوقية) من حضور قويّ في تعديل المسار الأولي للبطل جلجامش في اعتقاداته التي كان يظن من خلالها أنه لا يمرض و لا يُغلب و لا يموت.
لقد استطاع السرد الإنساني القديم المصنَّف تحت دائرة ما يسميه العلماء و النقاد بـ(الأسطورة) أن يجعل من الإرادة العليا فعلا نافذا في تحييد القوة البشرية الممثلة في جلجامش المتباهي بألوهيته، لأن ثلثاه إله و ثلثه بشر، عن مسار ما نسميه عندنا اليوم بـ(الحُقْرَة) ، ومن ثمة إبعاده عن طريق التسلط و الغدر و الطغيان و الاستبداد و العودة به إلى نفسه حيث المساءلات الجوهرية التي كانت يطرحها بطريقة غير صحيحة و غير مجدية كما هو الحال عليه في عصرنا الحاضر. و لم يكن ذلك ممكنا بالنسبة لسكان مدينة (أورور ) المغلوب على أمرهم، و كذلك بالنسبة لحقيقة الفكرة التي يحملها جلجامس عن نفسه و عن العالم، لولا مجيء (أنكيدو) المخلوق ذي الصفة الحيوانية المشابهة في خلقتها لصورة جلجامش، الذي سيبث صورة جلجامش في شاشة حقيقته فيكتشف هذا الأخير أنه ليس وحده في هذا العالم ، و إنما هناك مخلوقات أخرى بإمكانها أن تكون موازية له في النديّة . لقد كان مجيء أنكيدو لحظة حاسمة في مسار جلجامش الذي تغير بصورة جذرية، و راح يبحث عن الحقيقة لا في ظاهر ما كان يعتقده من توهمات قوته ، و لكن في جوهر ما يحمله الإنسان من أسئلة باطنة لم يجب عنها. و لعل هذا ما حفز جلجامش إلى السفر بعد موت أنكيدو، للبحث عن إجابة لهذه الأسئلة التي ستوصله في نهاية الملحمة في ما تحصل عليه من سرّ ضئيل جدا بالنسبة لطموحاته، و هو ما تمثل في (عشبة الخلود) المشهورة التي سرعان ما أخذتها (الأفعى) في لحظة سخرية رهيبة يهزأ بمطلبية الإنسان و إصراره الدائم على محاولته الاستحواذ على الحقيقة. لقد أخذت الأفعى العُشبة تركته يواجه حقيقته مرّة أخرى، لولا تفطنه في النهاية إلى ما يمكن أن يمثله (الانجاز) المتمثل في بنائه السور العظيم، من أثر بارز – ومن هنا اهتمام الغرب بالأثر- لتحقيق الخلود الدائم.
ثمة تقاطعات سردية و حكائية عديدة مع الإرث السردي عموما و مع القصص التاريخي الإنساني وكذلك مع النصوص المقدسة القديمة و مع القرآن الكريم. و لذلك نجد في هذه الملحمة تقاطعات مع قصة سيدنا نوح عليه السلام من خلال بناء السفينة و الهروب بأصل الحياة عن الطوفان. كما نجد فيها تقاطعا كذلك مع قصة سيدنا موسى و سيدنا الخضر عليهما السلام. و يعتقد الدارسون هنا أن جلجامش يرمز إلى سيدنا موسى، بينما يرمز (أنكيدو) إلى سيدنا الخضر. و ثمة ترميزات أخرى كثيرة ربما احتاجت إلى وقفة أطول لإعادتها إلى أصولها التاريخية. غير أننا ، ونحن نقارن بينها وبين أحداث (الأوديسا) اليونانية، سنندهش لكثرة التقاطعات بينهما حتى لكأن المتأخر نقل كل شيء عن المتقدم، بل يكاد الأمر يكون كذلك لعدة أسباب تجعل من (إيلوس) أو (أوديسيوس) نسخة يونانية منقحة لملحمة جلجامش.
ولعل ما يهم في كل هذا أن كثيرا من العناصر،بل جلها، يكاد ينطبق على عصرنا أيما انطباق، و من هنا علاقتها العميقة بواقعنا و قدرتنا على توظيف أبعادها، كما هو الحال بالنسبة للرحلة السندبادية، في سردنا المعاصر الذي عادة ما يبدو مسطحا إلى درجة الملل في ترسيم تخييل ذي مستوى بسيط و سطحي في مناداة العوالم التخييلية التي لا مناص منها في بناء كل عمل روائي عظيم و ناجح.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح