إنحطاط الغناء في العالم العربي


إنحطاط الغناء في العالم العربي




الشاعرر الرقيق 

سعود الأسدي

يشهد العالم العربي اليوم انحطاطاً لم يشهد مثله منذ ألف عام وهو انحطاط شامل في السياسة والاجتماع والاقتصاد وكافة الميادين التي تفوّقت فيها شعوب دول شرقية مثل الصين واليابان وكوريا وشعوب دول أخرى غربية عديدة . وقديمًا تطرّق الباحثون والكتّاب لهذا التأخر وأسبابه ومنهم من جعل التأخّر شاملاً العالم الإسلامي وعلى رأسهم  أمير البيان شكيب أرسلان في كتابه : لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم . إن الحديث عن جميع جوانب تأخر العالم العربي يستنفذ جهود جيل بأكمله ولذا فإنني سألمس انحطاط الغناء لمساً خفيفاً بقدر استطاعتي وأنا الضعيف المنين كما كان يحلو لأبي العلاء المعري أن يقول ! وهذا الجانب هو سيل أوحال " الغناء " المتدفق إلينا ليل نهار من إذاعات  العالم العربي وفضائياته بلا شفقة أو رحمة على كبارنا وصغارنا والأجنّة في بطون الأمهات الحاملات ، وكأنما لا ينقص عالمنا العربي الا  التهتك الفاضح والشخلعة الرخيصة والكلام الفارغ والرقص الهابط وأغاني هِشّك بِشّك لتكون غذاءً فنيّاً لا يسمن ولا يغني من جوع أمّتنا الفني المزمن.  

         إن الأمم ومنذ أقدم العصور  تعاملت مع الشعر والغناء والموسيقى والرقص والرسم والنحت والمسرح ، وأخيراً في الألواح البابلية تمكن العلماء من حل رموز لألحان موسيقية وهي أول تأليف موسيقى في العالم أجمع ، وكذلك سبق واكتشفوا أول  مخطوط شعري وهو ديوان أو ملحمة جلجامش  وقد تمّ نشرها بالعربية في الثمانيات من القرن الماضي  ولو تمّ نشرها منذ بدايته  للشباب العربي القومي الناشئ لكانت الحصيلة الإبداعية أفضل بكثير لأن تأثير الأساطير كبير جداً وهو مخصب للأرواح ومحفّز للعقول ، واعتبر بذلك من تأثير الأساطير اليونانية في أدب الرومان ومن بعد في الشعوب الأوربية جمعاء أثناء عصر النهضة الرنيسانس وبعده وكيف أن تلك الشعوب بأساطيرها وملاحمها وبطولات أجدادها أيقظت روحها القومية  فعمدت إلى تأكيد ذاتها وإثبات أهليتها وجدارتها في جميع ميادين الأدب والفكر والإبداع مما حفزها إلى اليقظة والنهوض السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتحرّر الفكري من بعد سبات طويل ، بينما نحن العرب بسبب انتشار الأميّة والفقر عمدنا إلى سماع المجترّين من الوعاّظ والخطباء السجّاعين السلفيين حفظة الخطب المنبرية عن ظهر قلب من الذين كان يضخّ بهم الأزهر وسواه وإلى اليوم  في ربوع العالم الإسلامي كمرتزقة بالوعظ والإرشاد من دعاة عزل المرأة وسلب حريتها وإغفال  الأجيال عن العلوم و الفنون واللغات ، وتركهم هملاً بلا غاية أو هدف قومي يحفز الأمة إلى النهوض والأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا والثقافات العصرية المتطورة في الزراعة والصناعة والحرف التي تكفل العيش الكريم لملايين الحفاة والعراة والجائعين ،  ناهيك عن جهل الحكام من رؤساء وملوك وأمراء تحكّموا بمصائر الشعوب العربية  بالفقر والقهر والإرهاب .

          ولكي لا أشطّ بعيدا أقول ليس أصفى ولا أنقى من مرآة الغناء اليوم في إظهار تخلّفنا الفنّي والموسيقي والفكري والاجتماعي ، ولمّا كانت الفنون هي إحدى مظاهر رقي الأمم فقد سبق أن ارتقت الأمة العربية في صعود حضاري كان منارة للأمم وكان  أن استفادت وأفادت بعامل التفاعل مع الأمم والشعوب التي خالطتها فارتقت بسبب عدم انغلاقها وأكّدت ذاتها لا كما هي الحال اليوم من وقوفها تراوح  في مكانها  في خضوع وامتثال لما تمليه الحكام والهيمنة ألأمريكية ودول الغرب الدائرة في فلكها  .

          لقد كان من حسن حظ الشعر منذ البداية  أن يكون مرتبطاً بالموسيقى والغناء منذ أن سارت القوافل في الصحاري العربية الشاسعة ، وقد ترنّم به الحداة بأنغام توائم هَبْع البعير وارتجاز كفله ، ثم إنهم عندما التقوا بحضارات مجاورة تأثّروا بها وأخذوا منها  ما يبعدهم عن الحياة البدوية ويقرّبهم من الحياة الحضرية في فارس والعراق وبلاد الشام ومصر .

          لقد حفلت بوادي العرب في مطلع العصر الأموي بالشعر الرقيق من عذري وغيره   وكذلك حواضر الحجاز  ودمشق الشام  ، كما شاع الغناء  في مجالس الطبقات الارستقراطية وظهرت مئات الأسماء من موسيقيين ومغنين ومغنيات وجوارٍ كن يُرَبين تربية خاصة على الفصاحة والبيان والتذوق الأدبي وحسن الهيئة  ، وما طويس وابن جامع والغريض ومعبد ودلال ونومة الضحي وسواهم الا بعض أساتذة الغناء وأعلامه ممن أفاض كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني في سرد سيرهم وأخبارهم ، وعلى فكرة فإن هذا الكتاب في أجزائه الخمسة والعشرين هو أكبر دائرة معارف للشعر العربي وفيه علاوة على التاريخ وأخبار الشعراء وأيام العرب وسير الأجواد وسواهم مواد متنوعة في كل باب من أبوب العلم والمعرفة ، ويكفيه أن شاعر النيل حافظ إبراهيم الذي كان موازيًا لأمير الشعراء أحمد شوقي قوله : لقد كان كتاب الأغاني دليلي في الشعر حتى حفظته وعليه تخرّجت . وهناك عشرات بل مئات الكتب التي عالجت الموسيقى والغناء عند العرب لكبار العلماء أمثال الخليل بن أحمد والفارابي وابن سينا وابن باجة والأرموي وسواهم أدهشوا بها المستشرقين ، وكان للغناء آداب تعارف أهل صنعته  عليها  وما كتاب " كمال أدب الغناء " الا واحدًا من عشرات الكتب في هذا الباب . 

ويقتضي فن الغناء من المغنّي أن يكون على استعداد فطري وتربية وتهذيب وتثقيف بالشعر والأدب والصرف والنحو وحسن البيان والتحكم  في المقام وعشرات الشروط  الأخرى التي تتضافر لصقل المغنّي ، وكذلك الموسيقى وهي علم دقيق  لا تكفي بضع سنين لاتقانه كما أن الموسيقيّ الملحن لا غنى له عن الإلمام بمدارس الغناء والشعر العربي وروائع القصائد في شتى الأبواب والبحور والأوزان الشعرية وهي كثيرة عند العرب تربو على ستة عشر بحرًا فصيحًا وثلاثة عشر بحرًا زجلياً وعاميّاً .

         ومن المؤكد أن ظهور الموشحات  فتح مجالا واسعاً للتصرّف بالألحان ومزجها بين سريع ومتوسط وبطيء ومرحة راقصة ووقورة ، وبذلك  انكسرت الرتابة التي غالباً ما كانت تعتري القصيدة العمودية وقد أثرت الموسيقى العربية  وكذلك الغناء العربي في الموسيقى الاسبانية ، وانتقل هذا الُثأثير إلي جنوب فرنسا وشواطئ إيطاليا عن طريق صقلية حتى شاع  انتشار فن التروفير والتروبادور في عموم إسبانيا وجنوب فرنسا ،  والتروبادور شاعر رحّالة  مغنٍ  بمصاحبة آلة تسمى " اللوت " ( Lute (وهوالعود العربي وهناك من يرى أن هذه كلمة طروبادور مأخوذة من دورطرب أي طرب دور.

      لا أريد بهذا أن أثير الشجن على ما كنا عليه في الغناء العربي من تفوّق والموسيقى من تميّز ، فالربابة العربية ظلت بوتر واحد بينما الكمان الغربي تطور إلى أن أصبحت ألته  سيدة الآت ، وكذلك بيانو الصالونات وما رشح من هاتين الآلتين الغربيتين من موسقى هي أقيانوس لا ساحل له.

      ويبدو أن العلاقة الوشيجة بين الشعر والموسيقى والغناء كانت قدراً عند جميع الشعوب ، وإن دور الموسيقي في نشر الشعر الجميل لا غنى عنه فأن كثيراً من الشعر الألماني الرائع مثلاً  كما هو عند كلوبستوك وغوته وشيللر وموللر وهايني وموريكي وأيشندروف  عملت الموسيقى على نشره وجلاء صوره كما في أعمال بيتهوفن وشوبرت وهذا( ابو الليدر أي الغناء الألماني فقد لحّن ما يربو على ستمائة أغنية )   وشومان وبرامز وولف وشتراوس وكارل أورف  وتشهد العلاقة االودّية بين الشاعر والموسيقي على التقارب بين الموسيقى والشعر فالموسيقي الملمّ بالأدب  يكون مبدعاً بألحانه عن علم ودراية  لا كما هي حال الموسيقي البعيد عن الأدب وتذوّقه .

إن شيوخ الغناء القديم عند العرب وكذلك الموسيقيون كانوا على علم ودراية بروائع الشعر وطرائق غنائه بتأثير علم التجويد أمثال السيد الصفطي والشيخ أمين حسنين وأبو العلا محمد  ومحمد القبّنجي وكذلك المغنّيات سليمة مراد وعفيفة إسكندر ورتيبة ومنيرة المهدية وأم كلثوم  ، كما كان الشاعر أقرب إلى المغنّي والملحن مثل أحمد رامي الذي كانت قصائده ينشدها طلابه  ويغنّونها في الأحياء قبل أن تصل للموسيقي الملحن وللمغنّي .

      لقد قيل قديماً ليس على المطرب أن يُعرب  ، وهو قول فج بعيد عن الصحيح ولا يستقيم في لغة العرب فعلى المطرب أن يعرب وإلا أصابه ما أصاب ذلك المغنّي الذي غنّى لأحد الخلفاء حتى وصل الى البيت ::

             إذا أنت أُُعطيتَ السعادةََ لم تَبُلْ     ولو نظرتْ شزراً إليك القبائلُ

والمقصود لم تُبَلْ من المبالاة ولكن المطرب  لجهله باللغة قال  لم تبُلْ من البول فضحك الخليفة حتى استلقى على قفاه وبال في سرواله من شدة الضحك هو وحاشيته  !

           والسؤال اليوم  نطرحه على المغنين والمطربين والملحنين كم منهم قريب الى الشعر والأدب ودقّة اللغة ؟ في موسيقى الغرب مقامان ولدينا في موسيقانا ما يربو على مائة مقام ، ولدينا ربع نغمة وليس لديهم ربع ولا ثمن وموسيقاهم بحور وأقيانوسات بلا حدود ، ونحن  في ضحضاح ، كما يقال أننا أقدر على الارتجال وهم مقيّدون بالنص الموسيقي ولديهم بعض ارتجال، ولكن للأسف الشديد  موسيقانا مستنقع آسن عَفِن عَطِن حمانا الله شر الأوبئة والأمراض  وأنقذ امّتنا من هذا البلاء .

             وكان أن شهد الغناء العربي في العقود الأخيرة مع ظهور الفضائيات العربية تقهقرًا وانحساراً كبيرين ولكن في أوائل القرن الماضي كان المسرح الغنائي العربي مزدهراً ، وإن الكثير من الأعمال المسرحية الغنائية لاقت رواجاً وسدّت فراغاً ، وكان الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش وآخرون مميّزين في هذا الباب وكان ذلك بتأثير الأوبرا الغربية  وإنْ كانت الأوبرا الأوربية ومنذ القرن السادس عشر لا يدانيها أيّ فن وكانت الموسيقى الأوربية في إيطاليا بتطوير آلة الكمان والبيانو المعدّل قد قطعت أشواطا لا تدرك أبدا في مجال الصوناتا والكونشيرتو والسيمفونية والقصيد السيمفوني   والبالية التي تحكي قصصاً من روائع الإبداع العالمي . وكانت روسيا لدى كبار موسيقييها أمثال بورودين وتشايكوفسكي وجلينكا وريمسكي _ كورساكوف ورحمانينوف وكذلك خاشاتوريان الأرمني والهنغاريين أمثال  ليست وبارتوك وكوداي  ناهيك عما قدمت المانيا من معجزات باخ وهاندل وهايدن وبرامز وموزارت وبيتهوفن  وشوبرت وشومان ومندلسون وفاجنر  والفرنسيين امثال بيرليوز وبيزيه وديبوسي  وعمالقة الموسيقى الإيطالية ألبينوني وسكارلاتي وفيفالدي وملحني الأوبرا فيردي وبوتشيني وروسيني وغيرهم كثيرون وعدد من الفنلنديين والنرويجيين والإسبان مما يجعلنا نشعر امامهم بالقماءة كأقزام أمام عمالقة من ذوي الجبروت .إننا لا نستطيع أن " نضاهي الغرب لا بالغناء ولا بالموسيقى وكذلك لا نضاهيهم بإنشاء الموانئ وسكك الحديد والمطارات والمعدات التكنولوجية وعلوم الطوربيدات والصواريخ " ويكفي أننا في أسفل درجات الشعوب من وجهة ديمقراطية حتى بتنا نستورد الحراكات الغربية المقصود منها أن نوضع في مدار الدول الغربية  دينًا وسلوكًا وسياسةً يفصّلون لنا ما يريدون أن نلبسه من الدشاديش للأبدان  والألاشين للأقدام وأباريق البلاستك للوضوء ثم فتاوي مدفوعة الأجر بالدولار الأخضر للقتل وإراقة دماء الأبرياء . في العراق وسوريا وليبيا واليمن  والحبل على الجرّار . فيا أمة ضحكت من جهلها الأمم لا أزاح الله عن قلبك شدة ولا أعطاك عافية والسلام يا كرام !


سعود الأسدي
http://www.alnoor.se/article.asp?id=152241

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الهدم البنّاء و مفهوم الزائل في الفن المعاصر لمحراب التشكيل / محمد فارس

الصورة في الفن المعاصر بين الإدراك و التأويل / محمد فارس تونس

أعلام الموسيقى والغناء في العالم العربي الشيخ العربي بن صاري (1863-1964) / محمد بن عبد الرحمن بن صالح